من على أرض تملكها الرهبانية المارونية اللبنانية (في تحول استثنائي وغريب في مسارها، بعدما أصبحت الاحزاب المسيحية من مستثمري الاوقاف المارونية)، اعلن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، أول من أمس، ترشحه غير المباشر لرئاسة الجمهورية، ببرنامج عمل واضح ومحدد الاهداف.
أبعد من إعمار «بيت شعب» للتيار، واستعادة صور من الماضي لجمع اموال المتبرعين في التسعينيات الى قصر الشعب، وتحديد عملة التبرع بالدولار لا بالليرة اللبنانية، والقفز فوق تاريخ المصالحة ودور البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في الدفاع عن الجبل وموقوفي 7 آب، وضع باسيل ترشحه للرئاسة على قاعدة تقديم جردة شاملة بالانجازات والتطلعات، مسمّياً خصومه وحلفاءه على طريق السنوات الثلاث المتبقية من ولاية الرئيس ميشال عون.
لم يتخذ رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، منذ عقد المصالحة بين القوات والتيار الوطني واتفاق معراب، مسافة كبيرة بينه وبين التيار، كما يحصل في الوقت الراهن. بعد المصالحة بدأ الافتراق التدريجي بين الطرفين، في الانتخابات البلدية ومن ثم النيابية وتشكيل الحكومة الثانية وجلساتها المتفجرة، وصولاً الى مواقف جعجع الاخيرة البارزة، كرس رئيس القوات ابتعاده عن العهد وحزب العهد. يعرف جعجع أن باسيل بصفته وريث العهد والرئيس، يستعجل خطواته نحو هدف وحيد. وفي ظل التطورات المحلية والاقليمية، آثر جعجع أن يتراجع خطوات الى الوراء، لأنه يدرك ايضاً ان اسهم باسيل يمكن ان تكون مرتفعة نظراً الى موازين القوى والتحالفات التي نسجها الأخير، تحت مظلة عون، ومن دونها. لكن وصول باسيل الى الرئاسة لا يمكن ان يتم بالقفز فوق جميع القوى، وخصوصاً القوات اللبنانية، بوصفها الطرف الذي يقارع التيار على صدارة تمثيل المسيحيين. يبتعد جعجع رافعاً الثمن الى الحد الاقصى، في حال اقتضت اي تسوية وصول باسيل، والتسويات في هذه القضايا اصبحت متوقعة، بعد وصول عون الى بعبدا. وهو يكرس في الحكومة والادارة والمواقف السياسية وفي حادثة الجبل وتوقف اعمال مجلس الوزراء، موقفه المناقض كلياً لأداء التيار.
خطأ باسيل اول من امس، أنه أسهم في تعميق هذه المسافة، وجارى جعجع في ابتعاده الطوعي عن العهد وعن التيار. ليس صحيحاً ان المصالحة واتفاق معراب منفصلان، بل هما وجهان لعملة واحدة، لا يمكن فصلهما مطلقاً. وانعكاس ارتداد التوتر القائم بات امراً واقعاً لا يمكن التقليل من اهميته وخطورته، خصوصاً انه بات يطال شرائح جديدة مجتمعية من مناصري الطرفين. وملف هذه العلاقة لم يفتح ليقفل سريعاً، على عكس ما هو حاصل في ملف الحكومة والتعيينات والمادة 95 من الدستور وحادثة قبرشمون. كل ذلك يمكن ان يجد له حلاً، لكن علاقة التيار والقوات لن تحل قريباً، وستعود مجدداً الى ازماتها الكثيرة حتى يحين موعد رئاسة الجمهورية. من هنا يجدر التوقف عن خطوة باسيل، لأنه ذهب، وهذه خطوة غير محسوبة بدقة، في اتجاه معاكس، وساعد جعجع في مضاعفة الثمن الذي يريده. وبرفعه سقف التحدي الكلامي (وتكراره كلمة سمير مجردة) والخطابي والسياسي تجاهه، إنما اعطى رئيس القوات ما يطلبه. ومن الآن حتى يحين موعد الاستحقاقات الرئاسية، فان كل خطوة من باسيل ستجد ما يقابلها من القوات، ما يزيد من عمق التحديات في برنامج عمل المرشح الرئاسي. وردّ جعجع سيكون في السير بهذا الطريق الى خواتيمه.
في المقابل، تولى باسيل بالنيابة عن حزب الله وفريق 8 آذار، الذي يصر التيار دائماً على تحييد نفسه عنه، الضغط على رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، من اجل تعديل منظومة فك الاشتباك بعد ايار عام 2008.
الاكيد ان العلاقة بين الطرفين لا تحتاج الى مزيد من الشروحات حول تردّيها منذ 2005. ورغم ان جنبلاط حاول قبل تأليف الحكومة ايداع عون رزمة تنازلات وتسويات لم تؤت ثمارها، الا ان حادثة قبرشمون أشعلت مجدداً نار الخلاف المتعدد الاتجاهات. صوّب باسيل – بعد رئاسة الجمهورية ونوابه ووزرائه ومناصريه – هذه المرة مباشرة على جنبلاط، في حملة تتعدى اطار الجبل، والحكومة والمجلس العدلي، لتصل الى رسم حدود لعمل جنبلاط السياسي، ما يعني حقيقة إعادة تنظيم الخلاف على أسس مغايرة عما كانت عليه منذ عام 2005 ، وصولاً الى ما بعد اتفاق الدوحة. ومن المرجّح أن لا يتراجع في هذه النقطة، لانه هذه المرة يريد اعادة انتظام جنبلاط، بثمن اقل مما كان عليه الوضع في عام 2008. وهو مدرك ان جنبلاط، مهما رفع سقوفاً عالية، يحتاج الى حل ينظم العلاقة مع حزب الله والعهد، لذلك بادر الى استهدافه مباشرة من دون أي التباس قبل الوصول الى ترتيب حل ما يحتاج إليه الجميع، ولكن مع تعديلات جوهرية على واقع جنبلاط وفريقه. فهو يعرف ان الوقت سيكون ضاغطاً كي يعاد ترتيب الاوضاع الداخلية على طريق تسوية تساعد على فك التوتر القائم. وفي انتظار تلك اللحظة، ينصرف رئيس التيار الى وضع برنامجه الرئاسي قيد التنفيذ، عبر خطوات ينجح في بعضها ويخطئ في بعضها الآخر، والثابت فيه حتى الآن تحييد الرئيس سعد الحريري في الداخل، والتمسك به امام الرأي العام الدولي. أكثر من ذلك، لا يعطي باسيل الحريري سوى ما يفرضه عليه حفظ ماء الوجه مع رئاسة الحكومة، لا أكثر ولا أقل.