التخبّط في الموقف الرسمي من الحرب في أوكرانيا بين إدانة وزارة الخارجية «الاجتياح الروسي لأوكرانيا» وبين التّنصّل الرئاسي من البيان الذي صدر عن مصادر الرئاسة اللبنانية وبين التسريبات عن أنّ رئاسة الحكومة لم تطّلع عليه، وتلك التي تؤكد أن رئاسة البرلمان لا علم لها به، لم ينطلِ على الجانب الروسي، على رغم اعتبار السفير الروسي في بيروت ألكسندر روداكوف أمس أن البيان «لا يراعي العلاقات الثنائية الودية التاريخية بين لبنان وروسيا».
تدرك الديبلوماسية الروسية غياب القرار اللبناني الموحّد إزاء الخيارات الخارجية للدولة، والتي تخضع تارة لضغوط خارجية، وأخرى لأهداف محلية أو فئوية في إطار الصراعات بين القوى السياسية على السلطة والمغانم. ولذلك اعتبر السفير روداكوف أنّ البيان «لن يؤثّر كثيراً على العلاقات بين روسيا ولبنان».
وهي تدرك أيضاً أنه لم يكن ممكناً أن يصدر وزير الخارجية عبد الله بو حبيب الذي لديه الخبرة الواسعة التي تمكّنه من تقييم ميزان الموقف بين الداخل والخارج، هذا البيان، بصرف النظر عن أن الموقف الذي تضمّنه صائب أم لا، من دون أن يكون حصل على ضوء أخضر من الرئيس ميشال عون. ويبدو وفق بعض المصادر أنه لم يكن السفير روداكوف بحاجة إلى من يسرّ في أذنه بأن رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل كان وراء البيان، كما تسرّب في بعض وسائل الإعلام، بعد اتصال الأخير به للتبرّؤ من صدوره. فالسفارة في بيروت تعلم جيداً كيف تسير الأمور في مسائل من هذا النوع وكيف يتدخّل باسيل في التوجّهات الرئاسية.
لم يقتنع الديبلوماسيون في بيروت ولا في موسكو بالروايات الجمبازية اللبنانية، ولا بالمعطيات عن أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تلقّى طلباً أميركياً فرنسياً بإصدار الإدانة وبتناغم الرئاسة مع هذا الطلب. ويصعب على التبريرات الرئاسية الصادرة لصدور البيان، ومنها القول إن الوزير بو حبيب تعرّض لضغوط كبيرة من أجل إصداره أن تشيح بمعطياتها عن أن ما حصل لا ينفصل عن الجهود المتواصلة من قبل الفريق الرئاسي لتبييض صورة العهد وباسيل، لدى العواصم الكبرى، سواء صحّت أم لم تصحّ المعلومات بأن ميقاتي هو الذي تلقّى الطلب الأميركي الأوروبي باستنكار الموقف الروسي. والأولى بالفريق الرئاسي أن يحدّد من الذي ضغط على بو حبيب، وكيف تمّ ذلك، في وقت أخذ وزير الخارجية على نفسه تحمّل مسؤولية البيان ولبس درعاً ليصوّب عليه المنتقدون.
الهدف المركزي للرئاسة اللبنانية هو رفع العقوبات عن باسيل لإعادة تأهيله لخوضها، إذا حصلت، ولتكون العقوبات وراءه. وهو يفعل كل شيء في العلاقة مع الدول، من هذا المنظار. والسؤال الذي تتداوله الأوساط السياسية، هو إذا كان صحيحاً أن هناك ضغوطاً كي يصدر بيان إدانة روسيا، فمن الذي ضغط على الفريق الرئاسي وما الذي دفعه إلى التخبّط الذي شهدناه في موضوع ترسيم الحدود البحرية، وهل هناك من ضغط على لبنان كي يبتدع الخط 29 ، ومن الذي ضغط للعودة إلى الخط 23، مقروناً بالطلب أكثر من ثلاث مرات من الديبلوماسيين الأميركيين رفع العقوبات عن النائب باسيل؟
لا يخفي بعض المتصلين بعدد واسع من الديبلوماسيين الغربيين في بيروت أنه تغلب على نظرتهم للفريق الساعي إلى مقايضات من هذا النوع الشعور بالاحتقار والاستهزاء. فقد تم إبلاغ من يلزم أن رفع العقوبات لا يتم بهذا الشكل وأن هناك طرقاً قانونية على باسيل سلوكها.
وفي موضوع ترسيم الحدود الذي يُخضعُه هذا الفريق للبيع والشراء، فعلى رغم انشراح الموفد الأميركي آيموس هوكستين لموقف الرئيس ميشال عون وفريقه بالقبول بالخط 23 وإبدائه الليونة حيال اقتراح طريقة رسمه المتعرج، فإن الجميع يدرك أن البيع والشراء في العملية التفاوضية لإنجاز قضية الحدود البحرية ليس في يد الفريق الرئاسي بل في يد «حزب الله» مثلما هي مسألة رئاسة الجمهورية أيضاً. وليس في يد من يمارسون ما يشبه الجمباز أن يدخلوا في بازار القضايا الكبرى.
الحصيلة النهائية لكل المناورات التي يمارسها الفريق الرئاسي تارة بالتشدد حيال طلبات الدول الغربية وأخرى بالانبطاح، في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية هي أنه لم يسبق أن حصل في تاريخ لبنان ما يحصل في علاقاته مع الدول.