بالشكل، إشكاليتان عابتا الورقة السياسية التي تلاها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في ذكرى “14 آذار”:
أولاهما، تقديم الورقة وكأنّها تعالج ظروفاً طبيعية تمرّ بها البلاد بينما الوضع الداخلي استثنائي يقف على فوهة بركان انفجر لتوّه، وها هو يستعد لرمي حممه يمنة ويسرة ليطيح بما تبقى من هيكل الدولة المتصدّع. بدا “التيار” وكأنّه في حالة انفصام عن الواقع، يعيش ترفاً فكرياً لا يشبه أبداً الظروف المحيطة والتي قد تهدد كل شيء، ولو أنّه في بداية الورقة تحدث عن “أزمة الإنهيار الكبير في المال والإقتصاد، وأزمة سقوط النظام بأخلاقياته السياسية وتعطّل آلياته الدستورية وعجزه عن قيادة الدولة والمجتمع”…
ولكن في وقت يبحث فيه الناس عن مقومات صمود بسيطة تساعدهم على تجاوز المرحلة، يتحدث باسيل عن المشرقية الجغرافية، وعن الدولة المدنية، والسلام مع اسرائيل… أكثر من ذلك، تحدث عن “مراجعة عميقة لخياراته وممارساته، وتفضي المراجعة الى صوغ مقاربة مختلفة لهواجس اللبنانيين وحلولٍ لمشاكلهم، وتؤسس لنظامٍ جديدٍ يُبنى على اسس الصيغة والميثاق”. واذ به لا يقدّم أي فكرة جديدة لأنّ الورقة هي عبارة عن سلّة طروحات سبق لباسيل أن قدّمها في أكثر من اطلالة.
ثانيتهما، أغفل باسيل أنّ “التيار الوطني الحر” هو حزب رئيس الجمهورية في تجربة هي الأولى من نوعها في تاريخ لبنان، حيث لحزب الرئيس كتلتان وزارية ونيابية وازنتان، وتناسى أنّ “التيار” يُسأل قبل غيره عن الأسباب التي حالت دون تحقيقه مشروعه، مشروع عهد ميشال عون. الأهم من ذلك تمّ تقديم الورقة وكأنّ “التيار” بصدد العبور للمرة الأولى إلى السلطة، أو كأنّ العهد لا يزال في انطلاقته بينما هو يشارف على الأفول… إلّا اذا كان المقصود من الورقة أن تكون مشروع جبران باسيل الرئاسي.
في المضمون، من الملاحظ أنّ الورقة ركزت على النقاط الآتية:
– استعاد باسيل خطاب المشرقية وقد طرحها في هذه الجولة على نحو غامض كمشروع جغرافي، اذ اعتبر أنّ “المشرقيّة هي حضن حضاري وثقافي و”التيار” يسعى لتحويلها الى حاضنة جغرافية حسيّة، لتأخذ مع الوقت شكل الكيان الاقتصادي المتكامل مع الفضاء العربي من دون التناقض معه، ومن دون المس طبعاً بوحدة دولها وبحدودها وسيادتها واستقلاليّة قرارها”. وقد استذكر البعض واقع أنّ البعد الجغرافي لهذه المشرقية هي فكرة تعود جذورها إلى بشير الجميل الذي طرح في حينه أن يكون لبنان عاصمة المسيحية المشرقية.
– طرح الاستراتيجية الدفاعية كصيغة تفاهمية انتقالية معتبراً أنّه “إلى أن يتم فكّ الحظر عن تزويد الجيش بالأسلحة اللازمة، والى ان يحلّ السلام المأمول، يرى التيار ضرورة إعتماد إستراتيجية دفاعية تقوم على التفاهم الداخلي، والحفاظ على عناصر قوة لبنان للحفاظ على توازن الردع، ومركزية قرار الدولة دون التخلّي عن الحق المقدّس والشرعي بالدفاع عن النفس”.
– بعد سلسلة مواقف تحذيرية، أعاد باسيل تمسكه بالتفاهم مع “حزب الله” على قاعدة تطوير التفاهم مؤكداً “تصميم التيار على اعادة النظر بوثيقة التفاهم بينه وبين “حزب الله” ومراجعتها بنيّة تطويرها بما يحقق: حماية لبنان عن طريق استراتيجية دفاعية، بناء الدولة من خلال مكافحة جديّة للفساد وإجراء كافّة الإصلاحات، تطوير النظام بما يوقف تعطيله ويؤمّن الشراكة الوطنية الكاملة”.
– كرر “مشروع التيار للدولة المدنية الذي يقوم على: معالجة الاختلالات الدستورية، استكمال تطبيق الدستور، اللامركزية الادارية والمالية، قوانين مدنيّة للأحوال الشخصيّة، مجلس شيوخ على أساس التمثيل المذهبي، مجلس النواب على أساس النسبية والدوائر الموسّعة والمناصفة، صندوق ائتماني يدير أصول الدولة، ويتحقّق مشروع التيار للدولة المدنية بالحوار بين اللبنانيين حول طاولة برئاسة رئيس الجمهورية، ويتم التفاهم عليه بكامله، على ان يتم تنفيذه تزامناً وتدريجياً بشكل يسمح بتسهيل تطبيقه وبإزالة الهواجس ومعالجة اسباب الخوف منه”.
– حاول باسيل محاكاة طرح البطريرك الماروني بشارة الراعي حول الحياد ليقفز منه إلى ضفّة “التحييد”، معتبراً أنّ “الحياد مفهومٌ له أصوله وقواعده في القوانين الدولية وهو يقتضي توافقاً في الداخل وقبولاً من الجوار وموافقةً دولية، فإن التيار يريد تحييد لبنان”.
– أعاد طرح مسألة الحرب والسلم مع إسرائيل معتبراً أنّ “وحده لبنان القوي، أمناً واقتصاداً، قادر على صنع السلام العادل والدائم والشامل مع إسرائيل”، وذلك بالتوازي مع عرضه قضيتي عودة اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين معتبراً أنّ “عودتهم (اللاجئين والنازحين) شرط وجودي للبنان، وعدمها مانعٌ للسلام مع إسرائيل ومولّد للحرب معها، ومانع لاستقرار العلاقات المميّزة والمتوازنة التي نريدها مع سوريا”.
على الضفّة النقيضة، يرى معارضو باسيل أنّ ورقته حفلت بالتناقضات والالتباسات. وكل ذلك في سبيل الهروب من أزمته المزدوجة:
الأزمة الداخلية التي تهدد “التيار”. وها هو اجتماع “تكتل لبنان القوي” الأخير يشهد انقساماً حاداً حول مسألة المشاركة في الجلسة التشريعية و”كسراً” لموقف باسيل، الذي كان يفضّل عدم المشاركة في الجلسة بسبب الاعتراض الذي تلاقيه سلفة الخزينة المطلوبة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان.
الأزمة السياسية الناجمة عن الانهيار الكبير الذي قد يطيح العهد، وانهيار شبكة علاقات باسيل بمختلف القوى السياسية.