IMLebanon

نحو متصرفية جديدة

 

الخطاب الطائفي عينه هو أقصى ما يمكن أن يقدّمه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بعد خمس سنوات من الفشل من وصول التيار إلى رئاسة الجمهورية، وبعد ثلاثة عشر عاماً من دخول السلطة التنفيذية من بوابة حقائبها السيادية والخدماتية. الخطاب الطائفي الذي أضحى لازمة نصف شهرية بمفردات مقيتة لا ترقى إلى أبسط قيم المساواة بين البشر في مجتمعات ما قبل الدولة قبل دلالاتها الوطنية في المجتمعات الحديثة هو المسار والمدار الذي لا يقوى جبران باسيل على الخروج منه، بل يحاول عبثاً جذب المسيحيين إليه لتحويل مقولة «حقوق المسيحيين» إلى فوبيا لصيقة بدورهم التأسيسي إلى جانب الطوائف الأخرى وبدورهم المستقبلي في تطبيق الدستور والانتقال بلبنان إلى رحاب الدولة المدنية.

 

المسيحيون قبل سواهم سئموا هذا الخطاب الذي يستبطن فوقية ممجوجة تحرجهم أمام مواطنيهم، وتهرباً من المسؤولية لتغطية الفشل. لا مكان في عقل اللبنانيين جميعهم لتقبّل باسيل بدور الضحية، هم الذين عايشوا يوميات دخوله الحكم وانقضاضه على القرار الرئاسي، هو الذي أضاف إلى شبكة الفساد القائمةضروباً وشراكات مبتكرة في سرقة المال العام.

 

الكلام عن أزمة دستور ونظام، هي حرب استباقية على الدستور الذي يرسم بكل وضوح في متن المادة 95 منه مسار الدولة المدنية التي يطالب بها اللبنانيون. الدولة المدنية وحدها الكفيلة بإسقاط معزوفة حقوق الطوائف لصالح نخب وطنية عابرة للطوائف والأحزاب هي ما يخشاه باسيل وسواه، وهي ما يدرك السياسيون أنه لا مفرّ من اعتمادها ليس لإنقاذ لبنان بل لإنقاذ مكوّناته الطائفية الذاهبة إلى الإنفجار من الداخل، نتيجة تحوّل حقوق الطوائف إلى مقاصة بين زعمائها على حساب الكفاءة وتكافؤ الفرص.

 

إنّ التجاوزات التي ارتكبت بحق الدستور سواء في تشكيل الحكومات أو في المحافظة على المناصفة في التعيينات خارج موظفي الفئة الأولى، وفي المناقصات خلافاً للقانون، تندرج كلها في مجال المحاصصات بين أركان المنظومة الحاكمة وليست استعادة للدور الذي سُلب من المسحيين بين العامين 1990 و2005. وفي هذا الإطار ينبغي أن يتذكّر باسيل أنّ الحواصل الإنتخابية التي حازتها لوائحه الفائزة في الإنتخابات الأخيرة، بالرغم من مذهبية الصوت التفضيلي، إنما استندت إلى أكثريات من المسلمين والمسيحيين، وهذا من قبيل مشاركة الجميع في إنتاج السلطة ومن قبيل ممارسة الحرية وليس خضوعاً لعبوديات ولا تزعّماً أو تزلّماً لأحد، وهي إن أتت في سياق أكثريات مدفوعة الثمن، فهي بالشراكة بين المسلمين والمسيحيين. وهذا يفترض من باسيل الإقلاع عن خطاب طائفي يحاول عبثاً استدراج تراتبية مصطنعة بين المواطنين وبين الطوائف وهو ما لا يستسيغه كلّ المتنورين من مسيحيين ومسلمين. فهل يدرك باسيل أنّ كل ما نعيشه من أعراف إنما أتى من قبيل بناء الثقة بين اللبنانيين وليس لبناء مراكز قوة وإرثٍ يصطف خلفة كل متعصب أو طامح للإستئثار بالسلطة؟

 

إنّ الإستقواء بالأمين العام لحزب الله لمواجهة كلّ من لا ينحني أمام رغبات باسيل إنما يعرّض حزب الله لإحراج يفوق طاقته. لا يستطيع حزب الله الإنجرار إلى خصومة مع حلفائه من المسيحيين من خارج دائرة باسيل، أو حتى لمواجهة مع خصوم باسيل الذين سيصبحون نقطة جذب لكل المسحيين الذين يضيقون ذرعاً بمغالاته بالإرتماء في حضن حزب الله الذي قضى على مشروع الدولة برمّته. يدرك باسيل كما يدرك حزب الله أنّ صلاحية تفاهم مار مخايل تنتهي بانتهاء العهد، وهي قد أدت الغرض منها، وأنّ ما يسميه الطرفان تحالفاً يتم اختبار هشاشته في كل يوم تثار فيه النزاعات العقارية في العاقورة أو في جرود لاسا، أو لدى إقدام أي مواطن شيعي على شراء عقار في كفرشيما أو الحدث أو عين الرمانة وسواها من خطوط التماس المجتمعي بين قطبيّ ورقة التفاهم. والأهم من كلّ هذه الإعتبارات هو حدود المخاطرة التي يمكن أن يذهب إليها الأمين العام في الوسط الشيعي لدى المقارنة بين إيجابيات الحفاظ على التماسك الشيعي مقابل ترجيح كفة باسيل المنتهي الصلاحية لبنانياً وعربياً ودولياً.

 

إنّ استمرارالجموح الطائفي الذي يمثّله جبران باسيل والمطالبة بإسقاط الدستور تحت شعار استعادة حقوق المسيحيين، وعدم تبلوّر فريق وطني واضح لمواجهة هذا الإنحراف والخروج من الأزمة، في ظلّ اشتباك المصالح بين القوى الإقليمية، وإعلان أوروبي يكرّس العجز اللبناني عن تشكيل الحكومة ينذر باستنساخ خطاب الحقوق لدى الطوائف الأخرى التي بدأت تفقد الأمل بقدرة المجتمع الدولي على فرض الحلول.

 

تعيدنا مكوّنات المشهد اللبناني الراهن إلى الأحداث التي شهدها جبل لبنان في أواسط القرن التاسع عشر والتي بدأت بالعاميات في القائمقامية المسيحية، وانتهت بمذابح طائفية أذكى نارها مبعوثو الدول التي ادّعت حماية الطوائف المحلية، بقدر ما أججها هوَس المتعصبين الحالمين أبداً بالكيانات الطائفية. المؤتمر الدولي الذي عُقد حينها لحلّ مشكلة الجبل أقرّ نظام المتصرفية على ألا يكون المتصرف من أبناء الجبل ومن غير الطوائف الست الرئيسية فيه ويتمّ تعيينه بالإتّفاق مع الدول الخمس الكبرى الضامنة.

 

نظام المتصرفية الذي قام على أنقاض نظام القائمقاميتين أدى في حينه إلى ظهور مجموعة من السياسيين الجدد المتمتعين الذين حازوا رضى القناصل وحكموا لبنان في ما بعد، فهل بدأ لبنان خطوته الأولى على طريق المتصرفية الجديدة؟

 

العميد الركن خالد حمادة

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات