ليست المرة الأولى التي يقتحم فيها مصطلح “سوريا” المشهد اللبناني، من باب الدعوة لفتح حوار رسمي بين الدولتين الجارتين. ولن تكون المرة الأخيرة التي يعلن فيها أحد الوزراء نيّته عبور نقطة المصنع للتوجّه إلى العمق السوري.
حتى أنّ هناك من يقول إنّ السوريين انتظروا من رئيس الجمهورية ميشال عون أن يُدرج المحطة الدمشقية على جدول رحلاته الخارجية، مع انطلاق ولايته الرئاسية، وليس خلال نصفها الثاني. وهذا ما سبّب انزعاجاً بقي مكتوماً وأسير الجدران الحديدية.
كما إنّه سبق لأكثر من وزير من “الوزن الثقيل” أن عبروا المنطقة الحدودية ليجالسوا نظراءهم السوريين ويناقشوهم في مسائل تقنية أو سياسية، أسوة بالوزير السابق بيار رفول الذي يقصد سوريا دوماً موفداً من الرئيس ميشال عون.
الغزل على المنوال السوري ليس ابن ساعته. وضع على طاولات القرار مع دخول عون قصر بعبدا، ولكنه ظلّ مضبوطاً ومطوّقاً خشية تطاير شظاياه لتنال من التضامن الحكومي.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، أكد رئيس الجمهورية في لقاء إعلامي قبل أكثر من سنة أن “قنوات الحوار سارية ومنتظمة مع سوريا في ملفي النازحين والأمن وأنه كلف اللواء عباس إبراهيم إدارة هذا الحوار الرسمي”، فيما واظب وزير الخارجية جبران باسيل على التشديد أكثر من مرة على “عودة الحوار السياسي مع سوريا”. وكلها مواقف لا يمكن فصلها عن معطيات الميدان السوري الآخذة بالتدحرج لمصلحة النظام السوري.
بهذا المعنى، لا تخرج دعوة رئيس الجمهورية من على منبر الأمم المتحدة “لتشجيع عملية العودة التي يجريها بالاتفاق مع الدولة السورية لحل هذه المعضلة التي تهدد الكيان والوجود”، عن المسار الانفتاحي الذي يمارسه العهد وحلفاؤه تجاه “الجارة” المنهكة بحروبها الداخلية.
كما تفقد “القنبلة” التي فجّرها وزير الخارجية من على “مسرح 13 تشرين”، بعضاً من “دويّها”، إذا ما اعتبرت سياقاً طبيعياً لمواقف قيادة “التيار الوطني الحر”، وقد سبق له أن أثار مسألة عودة سوريا إلى الجامعة العربية خلال مشاركته في اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير.
أكثر من ذلك، دفعت الأزمة الاقتصادية التي تجنح بسرعة نحو شفا الانهيار، إلى التخفيف من أثقال الإحراج الذي يسببه هذا الملف الخلافي لرئيس الحكومة سعد الحريري، لفرض بند التطبيع مع سوريا بقوة الأمر الواقع على طاولة مجلس الوزراء.
هكذا، تلاحقت المواقف الداعية لطرق أبواب دمشق من جديد، بغية إقناعها بتخفيض رسوم الترانزيت أمام الصادرات اللبنانية لعبور معبر “البوكمال”، والعمل على إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم بعد عودة الجزء الأكبر من الأراضي السورية إلى كنف سلطة النظام… إلى أن قالها باسيل بالفم الملآن: سأفعلها وسأتوجه إلى سوريا. وفي هذا السياق، تؤكد مصادر بارزة في قوى الثامن من آذار، أنّ ما أدلى به وزير الخارجية لا يرتبط بتوقيت سياسي معين، بل قد يكون تأخّر لأشهر على البوح به بسبب حرص الرئيس عون كما باسيل، ومعهما شركاؤهما من قوى الثامن من آذار على عدم تفجير الحكومة أو “زرك” الحريري. أمّا وقد تغيّرت الظروف المحيطة، فصار بإمكان اللبنانيين أن يخطوا خطوة للأمام نحو سوريا.
لماذا الآن؟ لأن الأزمة الاقتصادية تفاقمت جداً فسرّعت اعلان وزير الخارجية، مدعوماً بالمزاج العربي الآخذ بالتبدّل إزاء نظرته إلى سوريا ونظامها، كما تشير المصادر. كما أنّ اقتراب العهد من عامه الرابع من دون أن يتمكن من تحقيق انجاز كبير يسمح لـ”وريثه” السياسي، رئيس “التيار الوطني الحر” بتعزيز ترشيحه لرئاسة الجمهورية، لا بل إنّ التدهور الاقتصادي والاجتماعي يجعل من باسيل “أضعف” المرشحين، يدفع الأخير إلى البحث عن “إبرة” معالجة في “كومة” التحولات السورية.
أمّا الغاية الأبرز من “قنبلته” السورية، فهي وفق المصادر، السعي مع السوريين، لإيجاد حلّ لأزمة النازحين كونها تثقل بجزء كبير الوضع الاقتصادي، ولفتح باب تصدير الانتاج اللبناني بشكل يخفف من وطأة الشحّ في العملة الصعبة. وهو يدرك جيداً، كما سبق للمدير العام للأمن العام عباس ابراهيم وأبلغ المسؤولين اللبنانيين، أنّ القيادة السورية تطالب بفتح باب حوار رسمي وعلني مع اللبنانيين لتسهيل أي خطوة من جانبها. ويمكن لباسيل بما يمثله من ثقل سياسي، أن يكون الجهة الرسمية التي تقود هذا الحوار.
تضيف: إنّ المسألة السورية “استوت” على وقع الانعطافة البطيئة التي تجريها الدول العربية تجاه سوريا، من دون أن يعني ذلك أنّ رئيس الحكومة سيبصم على قرار التطبيع مع دمشق، لكنه في المقابل لن يقف حجر عثرة أمام أي حوار قد يجريه أحد وزرائه، حتى لو كان من وزن وزير الخارجية.
وبهذا المعنى، تقرأ قوى الثامن من آذار البيان المكتوب الصادر عن رئاسة الحكومة، بمنحاه الايجابي، والذي يخبّئ تنسيقاً خفياً بين الحريري وباسيل، بدليل إثارة رئيس الحكومة خلال زيارته الإماراتية مسألة إعادة إعمار سوريا والتي لا يمكن أن تتم إلا بعد تطبيع العلاقات الثنائية.
إذاً، يُدرك وزير الخارجية أنّ حراكاً عربياً جديداً يتموضع تجاه سوريا، لكن الحريري لن يقدم على أي خطوة قبل عودة دمشق إلى الجامعة العربية. فهل سيكون بمقدور “الاسفنجة” التي يمسكها لاستيعاب “خطوة” باسيل، أن تمتص نقمة شارعه؟