لم تنته المعركة الانتخابية في البترون مع انتهاء الاستحقاق النيابي. ولأن المدينة وقضاءها أحد أضلاع «مثلث المرشحين للرئاسة» تبدو الحملة مستمرة حتى موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ما يقحم المنطقة في مزايدة مسيحية تزداد حماوتها كلما اقتربنا من موعد الاستحقاق الرئاسي. اعتادت بلاد البترون المزايدات، لكن ليس وفق معيار طائفي، بل وفق معيار عقائدي دينامي حين كان نصف البترونيين شيوعيين واشتراكيين
تبالغ بقسميا في هدوئها. عطلة الصيف لا تبدّد السكون الذي يسودها في أشهر السنة. على غرار قرى قضاء البترون الـ 68، من بقي من أبنائها قلة ومن نزح منها كثر. أما من هاجر منذ عقود وانقطع عنها، فهم الغالبية. يمر بجوار البلدة المزدانة ببيوت الحجر وحدائق الزهور، طريق القديسين الممتد من مدينة البترون إلى مزار القديس شربل في عنّايا في جرد جبيل. لمسات اتحاد بلديات البترون تظهر عند مدخل بقسميا في اليافطات ومستوعبات النفايات. الطريق نحوها معبّدة حديثاً ومجهزة بإشارات السلامة المرورية. زحمة صور نواب المنطقة ورايات أحزابها تغيب عن شوارع البلدة التي تعطي انطباعاً بالحياد في مقابل انحياز واضح للكنيسة. يبدو القضاء برمّته وكأنه دير كبير يتماهى، بشكل خاص، مع مواقف الكنيسة المارونية التي انطلقت من كفرحي المجاورة حيث استقر البطريرك الماروني الأول يوحنا مارون عام 680. لكن، قبل سبعين عاماً، كانت بقسميا «شي تاني»، عندما كان معظم أبنائها شيوعيين مع قلة قومية واشتراكية. ولطالما تميزت «بلاد البترون» بدينامية سياسية وحزبية لافتة، حتى أن أهاليها انقسموا، خلال الحرب العالمية الثانية، بين هتلر وستالين. في العام الدراسي 1974 – 1975، فاز بعضوية مجلس طلاب ثانوية البترون الرسمية تسعة كتائبيين وسبعة شيوعيين وقوميان اثنان.
بين مزروعات «حاكورته»، يعيش الياس مفرج (85 سنة) شبه وحيد بعد وفاة معظم رفاقه في الحزب الشيوعي اللبناني. «الرفيق الذي يموت لا يولد بديل عنه»، يقول بحسرة. يشعر «الرفيق الياس» بغربة، ليس في محيطه البتروني فقط، بل «في لبنان كله مع تسرب الوطنيين والعلمانيين إلى الأحزاب الطائفية». سمى نجله البكر فلاديمير «لكي لا ينسى خلفيته العقائدية ويسير على درب والده». ولداه المقيمان في بيروت لم ينعزلا طائفياً، لكنه يخشى عليهما من «الندم يوماً ما على علمانية والدهما، عندما يصبحان أقلية منبوذة». كان «الرفيق الياس» واحداً من عشرات تأثروا، في ثلاثينيات القرن الماضي بفكر خاله يوسف شيخاني الذي حمل إلى بقسميا النائية الفكر الماركسي اللينيني من فرنسا حيث درس المحاماة. من لم يؤثر فيه شيخاني، تأثر بمدير المدرسة الرسمية يوسف ريشا الذي نمّى الحسّ الطبقي بين التلاميذ الذين حفظوا منشورات خالد بكداش ونقولا الشاوي. عام 1952، طُرد مفرج من ثانوية البترون بعدما قاد تظاهرة لتحسين رواتب الأساتذة و«أوقفني الدرك ثلاثة أيام». يفخر بأنه أسهم في صنع «عصر النهضة في بقسميا، القلعة الحصينة للفكر اليساري. لم نكن حينها تحت حكم بيك أو شيخ أو دير. أجواء تقدمية سمحت لي بأن أؤسس لجنة لحقوق المرأة في المنطقة عام 1949». لم تدم النهضة طويلاً. بدأت بذور الطائفية تنمو منذ ثورة 1958 حتى تفجّرت في الحرب الأهلية، و«ورث الفكر الانعزالي الفكر اليساري». خلال الحرب، قاد مفرج «جبهات رفض» عدة. رفض «انخراط الحركة الوطنية وفصائل الثورة الفلسطينية في القتال الداخلي ضد أحزاب الجبهة اللبنانية في جرد البترون»، كما رفض «الاحتلال السوري لساحل البترون منذ عام 1978 ما حوّل بقسميا وجاراتها في وسط البترون، لسنوات، إلى خط تماس بين كانتون الساحل وكانتون الجرد». منذ انتهاء الحرب، يشعر مفرج بأن المنطقة «تعيش عصر انحطاط. بعدما كانت القوى تتنافس على الشعارات الاشتراكية أو اليسارية أم القومية، صارت تتنافس على رفع مستوى التحريض الطائفي والمناطقي وحقوق المسيحيين لجذب الجمهور».
ad
امتدت الشيوعية إلى أنحاء القضاء من خلال شخصيات أثروا في بيئاتهم، أبرزهم رشيد معتوق من كفرحلدة الذي اعتنق الفكر الشيوعي أثناء دراسته الطب في ألمانيا في العشرينيات، ومن جران الصحافي خير الله خير الله، أحد مؤسسي الحزب، والذي ناضل ضد الاستعمار الفرنسي في لبنان وخارجه واغتيل في الجزائر قبل استقلالها. عندما كانت بقسميا «عاصمة الشيوعية»، كانت جارتها دوما، في جرد البترون، «عاصمة القومية»، إذ اعتنقت غالبية سكانها من الروم الأرثوذكس فكر أنطون سعادة وجورج حبش والقضية الفلسطينية والقضايا العربية والمشرقية. وبرز من بقسميا، الطبيب العروبي الذي درس في العراق يوسف جبور، ومن حلتا القومي يوسف الحويك. أما إجدبرا وجران فكانتا عاصمتين للاشتراكية. بعد الحرب العالمية الثانية، ذاع في الأولى صيت خوري الرعية المارونية في البترون طانيوس منعم الذي تحول من الشيوعية إلى الاشتراكية وتأثر بفكر جورج حبش، والتحق به كثر في القضاء، لا سيما بعد تأسيسه حركة أنصار السلم مع رشيد معتوق. وزاد تأثيره بعد صدور أول حكم قضائي في لبنان للقاضي رشيد جبران الذي انتصر لحرية رأي الخوري بعد أن ادعت الكنيسة عليه بتهمة تحقير الشعائر الدينية والتجديف. ومن جران، برز حنا يعقوب الذي كان صديقاً لكمال جنبلاط وتحول إلى رمز اشتراكي من البترون إلى بلاد جبيل، ومن تنورين الاشتراكي إميل طربيه.
يعيد الباحث كمال فغالي هذه الدينامية، بالدرجة الأولى، إلى الطبيعة الجغرافية للمنطقة. «الأراضي في غالبية القضاء بعلية. لذا اتجهت الناس إلى التعليم للحصول على وظيفة. وأسهمت الإرساليات اليسوعية الأجنبية في توفير التعليم للجميع في عهد المتصرفية ابتداء من 1868. ومن نتائجها، تمايز بلدات بأكملها بارتفاع نسبة التعليم قبل أكثر من قرن. دوما، مثلاً، ذات الغالبية الأرثوذكسية. وفدت إليها الإرساليات الروسية وساعدت البعض على السفر لمتابعة دراستهم. التعليم أنتج نخباً انجذبت إلى الأحزاب والحركات الثقافية». فغالي نفسه، ابن كفرعبيدا، تأثر بخاله الاشتراكي حنا يعقوب، وانجذب إلى القضية الفلسطينية وانتمى بداية إلى الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين قبل أن يتحول إلى الجبهة الشعبية.
ad
الكنيسة والرئاسات
منذ عقود، زاد ارتباط القضاء ذي الغالبية المارونية بالكنيسة وبرئاسة الجمهورية. معظم الزعامات المحلية بنت نفوذها على علاقتها ببطريرك أو مطران أو رئيس جمهورية، ما ضمن لها مقاعد نيابية ومواقع رسمية أخرى. في مقابل الزخم الشيوعي والاشتراكي والقومي في الوسط والجرد، وجدت الكتلتان الوطنية والدستورية مناصرين لهما في مدينة البترون، لا سيما بعد وصول إميل إده وبشارة الخوري إلى رئاسة الجمهورية. وبعض البترونيين استبدل إحدى الكتلتين بالكتلة الشمعونية بعد وصول كميل شمعون إلى الرئاسة. في دراسة عن «العائلات والبيوت السياسية في قضاء البترون من خلال المجلس النيابي»، تلفت كاترين ريشا، من إجدبرا، إلى أن «السياسة شكلت في جرد البترون ووسطها وساحلها ثنائيات تعاقبت على تمثيل القضاء في السياسة بالانفراد أو بالاتحاد، في ظل عملية توارث امتدت حتى ما بعد الحرب الأهلية». وتوقفت عند نفوذ تلك البيوت المتمثل بسلطتها السياسية أو الدينية أو المادية وليس بامتدادها العائلي عددياً. في جرد تنورين، برزت زعامات طربيه ثم يونس و بو نصار، ولاحقاً حرب. وفي الساحل، آل ضو وآل عقل. ترشح وخسر كل من إميل طربيه منفرداً عام 1958 تحت شعار «انتخبوا رفاق كمال جنبلاط»، طمعاً في إحياء زعامة عائلته، وخليل طربيه عام 1972. علاقة آل يونس بالانتداب الفرنسي أوصلت مسعود يونس إلى النيابة ثلاث مرات حتى عام 1939. بعد مرحلة ركود، تمكن منوال يونس من تجديد الزعامة مستفيداً من علاقته بالعهد الشهابي، ففاز في انتخابات 1968 وخسر في انتخابات 1972. زعامة آل عقل بدأت بإبراهيم عقل الذي كان مقرباً من البطريرك الياس الحويك وانتهت عام 2005 بعزوف النائب سايد عقل عن الترشح مجدداً. وما بينهما كميل عقل الذي بارك الكهنة ترشيحه عام 1960 قبل أن يعتزل السياسة بعد خسارته انتخابات 1964، ويورثها لابن شقيقه سايد الذي انتمى للكتلة الوطنية.
ad
بدأت بذور الطائفية تنمو في القضاء منذ ثورة 1958 وتفجّرت في الحرب الأهلية ليرث الفكر الانعزالي الفكر اليساري
واستمدّ آل ضو نفوذهم من تقربهم من الكتلة الدستورية خلال تولي بشارة الخوري رئاسة الجمهورية قبل أن يوالوا لاحقاً سليمان فرنجية. وظل يوسف ضو نائباً حتى دورة 1951. أما آل البيطار من كفيفان، فاستمدوا نفوذهم من علاقتهم برؤساء الجمهورية، فانتخب كميل البيطار لدورات عدة مدعوماً من رئيس الجمهورية إميل إده، وشغل نجله إميل وزارة الصحة في عهد الرئيس سليمان فرنجية. وصعد نجم زعامة آل حرب، من تنورين، بعد انتهاء الانتداب الفرنسي الذي كانوا يعارضونه، وانتقلت من أنطوان إلى شقيقه بطرس ثم جان حرب الذي فاز في انتخابات 1953 مدعوماً من الشمعونية، وبقي نائباً لثلاث دورات حتى وفاته عام 1969، فورث الزعامة ابن شقيقه المحامي بطرس حرب الذي فاز للمرة الأولى في انتخابات 1972.
«الزعامة» الوحيدة التي جاءت من خارج البيوت التقليدية والإقطاع، كانت لجورج سعادة. ابن العائلة المتواضعة من شبطين، والذي أوصله حزب الكتائب إلى النيابة عامي 1968 و1972، بعد انتشار الحزب بين الموارنة منذ الخمسينيات. قبل سعادة، كان جاك شديد أول مرشح كتائبي للنيابة عام 1960 من دون أن ينجح. والمصير نفسه لاقاه الكتائبي إميل حكيم في الدورة اللاحقة. سر شعبية الكتائب في ذروة سطوة الإقطاع أنها أعلنت انقلاباً بوجهه بواسطة الشباب وبتواطؤ ضمني مع البرجوازية الجديدة من التجار والمغتربين.
من ملف : الانتخابات في «بلاد» البترون لم تنته بعد