إثرَ انفجار مصرف «لبنان والمهجر»، ساد اعتقاد بأنّ لبنان دخلَ مرحلة عنفٍ جديدة مختلفة عن تلك التي تشنّها التنظيمات المتطرّفة، ومشابهة للمرحلة التي تلَت العام 2005. وكان أبرز وأوضح من عكَس هذا الانطباع النائب وليد جنبلاط الذي تحدّثَ عن بداية سلسلة من التفجيرات.
لكنّ الواقع يبدو مختلفاً، حيث تعتقد أوساط ديبلوماسية غربية، وفي معرض قراءتها للانفجار، أنّه يُشكّل ذروةَ المواجهة في ملف العقوبات الماليّة الصعب والشائك، وأنّ المرحلة الآتية ستكون مخصّصة لترتيب المخارج والأطر القانونية المعقولة والمقبولة، بدليل ردود الفعل الهادئة للعواصم الغربية وفي طليعتها واشنطن.
وبعيداً عن الجدل اللبناني الداخلي الضيّق، فالصورة تبدو مختلفة من الخارج، ذلك أنّ الساحة اللبنانية تتلقّى انعكاسات الملفات الكبرى في الشرق الأوسط. خلال الأشهر الماضية انشغلَت مراكز القوى داخل الإدارة الأميركية في وضع الخطط لتمرير الاتفاق النووي مع إيران بأقلّ أضرار داخلية ممكنة، ومع الأخذ في الاعتبار مسألتَين أساسيتين:
الأولى وهي اقتراب ولاية الرئيس باراك أوباما من نهايتها، وبالتالي الدخول في معركة إبقاء الحزب الديموقراطي في البيت الأبيض من خلال ضمان وصول هيلاري كلينتون.
والثانية، المعارضة الشرسة للاتفاق من خصوم إيران، وفي طليعتهم إسرائيل واللوبي اليهودي القوي والفاعل داخل الولايات المتحدة الأميركية.
وكان واضحاً أنّ الأسلوب الذي اعتمده البيت الأبيض خلال توقيع الاتفاق، والذي تضمّنَ الالتزام الكامل بأمن إسرائيل، إنّما كان الهدف منه تهدئة اللوبي اليهودي الأميركي.
يومَها سعَت الإدارة الأميركية إلى تقديم التزامات أمنية وعسكرية تجاه إسرائيل، وفي الوقت نفسه وضَعت تصوّراً يقضي بالضغط على «حزب الله»
في إطار طمأنةِ إسرائيل واللوبي اليهودي لتمرير الاتفاق مع إيران.
وسَمع العديد من المسؤولين اللبنانيين الذين زاروا واشنطن منذ بداية العام الجاري أنّ الإدارة الأميركية ذاهبة في اتّجاه إجراءات ماليّة قاسية ضد «حزب الله» بهدف تجفيف مصادر تمويله. لكنّ الكلام الأميركي كان يرفَق بعبارة سحرية تقول: سنَعمد لإجراءات تؤدّي ربّما إلى هزّ القطاع المصرفي اللبناني، لكنّها حتماً لن تؤدّي إلى سقوطه. فهذا خط أحمر أميركي.
إستنتاج الزوّار اللبنانيين كان واضحاً: مرحلة صعبة يمرّ بها لبنان لكنّها لن تتجاوز الحدود المرسومة لتصل إلى الخطر.
في الداخل اللبناني، تفسيرات عدة حول الانفجار الذي استهدف مصرف «لبنان والمهجر»، حيث انقسَمت الآراء إلى قسمين: واحد يتّهم «حزب الله» بالوقوف وراء الانفجار، وهو لديه قراءته في هذا السياق، وثانٍ يتّهم أجهزة أمنية أجنبية بتنفيذه بهدف توجيه أصابع الاتّهام إلى «حزب الله» وتشديد الخناق حول عنقِه.
وما بين الرأيَين، بقيَ «حزب الله» غارقاً في صمتِه، فيما كان للأوساط الديبلوماسية الغربيّة قراءتُها الخاصة التي تتقاطع مع أنصار الرأي الأوّل وعلى أساس أنّ ما حصل رسالة واضحة، وأنّها قبِلت كجزء من اللعبة الدائرة.
وحسبَ هذه الأوساط، فإنّ متفجّرة بنك «لبنان والمهجر» والتي كانت «صوتيّة» أكثرَ منها فعلية، أرادت أن تقول إنّ الوضع تجاوَز قدرةَ الاحتمال وإنّ مخاطر دخول لبنان في الفوضى مجدّداً لم تعُد بعيدة.
لذلك فإنّ واشنطن التي نالت من الكباش المالي مع «حزب الله» الوقعَ المعنوي والإعلامي الذي تريد، أضِف إلى ذلك التزامَها بالاستقرارين الأمني والمالي، قد تكون وجَدت أنّ الكباش وصَل إلى الذروة وأنّ الظروف باتت تَسمح بالعمل على إيجاد صيغةِ تسوية يمكن للأطراف اللبنانية وضعُ خطوطها العريضة والتفصيلية، لذلك بدت ردود الفعل الخارجية والداخلية مرِنة وغيرَ متوتّرة.
وقيل إنّ التواصل الذي حصَل بين «حزب الله» وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أنتج توافقاً على نقطتين: الأولى البدء بتهدئة إعلامية، خصوصاً بعد حديث الحاكم المتلفَز ومن ثمّ ردّ كتلة «الوفاء للمقاومة» عليه، والثانية حصول اجتماعات لإنجاز تفاهُم على الإجراءات المالية بين المصرف المركزي ولجنة متخصّصة من «حزب الله». صيغة مهمّتها الفصل بين القرار بمضمونه المالي الأمني وبين المتفرّعات الاجتماعية والصحّية والحياتية له.
في هذا الوقت تدور مواجهات عنيفة في الداخل الأميركي حول الانتخابات الرئاسية التي دخلَ فيها الإرهاب على الخط. ولم يعُد خافياً أنّ جزءاً أساسياً من الجمهور الأميركي متعطّش لأسلوب حكم قوي. وهذا ما دفعَ بدونالد ترامب إلى الأمام، وهذا ما يُهدّد هيلاري كلينتون رغم تفوّقها حتى الآن. ومِن هنا تفهُّم ضغوط الإدارة الأميركية المالية على «حزب الله».
وتبدو الإدارة الأميركية وكأنّها تخشى من عمليات لـ«داعِش»، ما يُعزّز حظوظ ترامب، وقيل إنّ اتّهامات داخلية تدور حول تقاعس بعض الأجهزة الأمنية لأسباب سياسية ورئاسية، وهذا ما طاولَ جهاز الـ«اف.بي آي» مثلاً بعد عملية أورلاندو.
ووسط هذا الصراع الرئاسي الذي يُطاول اللعبَ على الغرائز في بعض جوانبه، تبدو الصورة في الشرق الأوسط أكثرَ تعبيراً. فمرشِد الثورة الإيرانية السيّد علي خامنئي يُعلن تمسّكه بالاتفاق النووي مع واشنطن، ولو أنّه سيَعمد إلى إحراقه في حال مزَّقته الإدارة المقبلة. والواضح أنّها رسالة إيرانية أيضاً في صندوقة الانتخاب الأميركية.
في المقابل، تندفع واشنطن في رعاية العمليات العسكرية لطردِ «داعش» من الأراضي التي احتلّها. في جانب من ذلك رسالة قوّة إلى الداخل الأميركي، وهو ما جعلَ أوباما يعلن بنفسه خسارة «داعش» نصفَ الأراضي التي احتلّها سابقاً.
لكن في جانب آخر ما هو أكثر أهمّية، فالعمليات العسكرية ما كانت لتحقّق تقدّماً في ظلّ الرعاية الجوّية الأميركية ولولا وجود تفاهم واضح مع إيران على مرحلة ما بعد «داعش»، ما يُعزّز الانطباع بأنّ الضغط الحاصل على «حزب الله» لا يعكس أبداً صراعاً أميركياً – إيرانياً بقدر ما له خلفيات خاصة بـ»رشوة» المعترضين عليه في الداخل الأميركي.
لا بل أكثر، فروسيا وإسرائيل تزيدان من تقاربهما وتقيمان مناورات عسكرية مشتركة هي الأولى من نوعها، حيث ستنطلق الطائرات الروسية مباشرةً مِن قواعدها في سوريا لتشاركَ في المناورات. وهذا ما كان ليحصل لولا موافقة واشنطن. كما أنّها تؤكّد أنّ الكلام عن حرب إسرائيلية على
لبنان إنّما يبقى كلاماً غيرَ واقعي ويَدخل في إطار التهويل ليس إلّا.
ربّما الخطر الأكيد الذي لا يزال يتربّص بلبنان ويُهدّد استقرارَ صيفه، هو خطر وقوع عمليات إرهابية. إذ إنّ الأجهزة الأمنية اللبنانية تملك معلومات موثّقة عن نيّة «جبهة النصرة» تنفيذَ عمليات في الداخل اللبناني بعدما نجَحت القوى الأمنية اللبنانية في اعتقال مجموعات لـ»النصرة».
ولدى الأجهزة الأمنية اللبنانية معلومات أيضاً عن أوامر تلقّاها أحد كوادرها الموجود داخل مخيّم عين الحلوة للتحضير لعمليات جديدة بهدف تخفيف الضغط عنه في سوريا.
وكانت هذه الأجهزة قد اعتقلت لبنانياً من صيدا، اعترفَ خلال التحقيقات بأنه جهّز بيتاً آمناً ومتفجّرات وأسلحة بناءً على طلب قيادة «داعش» في سوريا، على أن يأتي انتحاريّون لاحقاً للمبيت فيه وأخذِ المتفجّرات وتنفيذ عمليات إرهابية. وأضاف الموقوف أنّ مهمّته تتوقّف عند تأمين المكان والمتفجّرات ولو أنّه أشار إلى أن الهدف كان سياحياً أو اقتصادياً.