بدت معركة جونية، حيث «الشير» الحامل مزاراً للقديس جاورجيوس طاعناً التنين بالرمح، وكأنها فعلاً معركة أسطورية خرجت مِن كُتب التاريخ. وكأنّ المدينة لم تخض معركة بلدية عادية، بل معركة في مواجهة التنين الهاجم عليها من صوب البحر.
اختلطت الروايات بالأساطير في جونية: مركبٌ للنائب سليمان فرنجية – خصم عون الرئاسي- في عرض البحر يدير المعركة ضدّ «الجنرال»، فيما رجل أعمال يعمل في أفريقيا يرُشّ الأموال على الناس لهذه الغاية!
إحتجَّ السيد نعمت أفرام بقوة: «لسنا في حاجة إلى متموِّلين، الحمدلله، وأساساً عيب القول إنّ فريقنا يدفع الرشاوى».
المهم أنّ معركة جونيه – التي لا يهمُّها عادةً هدير البحر- كان ينقصها فقط «أن تستدير سيّدة حريصا» مرّة أخرى، كما فعلت في ثورة 1958!
المعارك في جبل لبنان كانت متفاوتة السخونة، إلّا معركة جونية… «إكسترا». وسيتذكر الناس طويلاً أغنية «الفيديو كليب» الجميلة فنّياً. حتى خصوم «لائحة التجدد» كانوا يردّدونها في عزّ المعركة.
ويجدر القول إنّ كميات كبيرة دُفِعت للمعركة – هنا وهناك – في جونية، وليس بالضرورة أن يكون مالاً فاسداً بمعنى شراء الأصوات. ففي لبنان، المال والخدمات السابقة واللاحقة والمنتظرة… والمحتملة، كلها واردة ولها مفعولها. و»ما حدا أحسن من حدا في هذا المجال».
سؤال: هل إنّ تبَرُّع المتموِّل المرشَّح، مثلاً، بترميم مستوصف بلدةٍ ما، قبل موعد الانتخابات بأسبوعين، يُعتبَر شراءً للأصوات أم لا؟ في لبنان اعتاد الناس أن يقولوا «لا».
المهمّ أنّ معركة جونية انتهت كما توقّع كثيرون: لا غالب ولا مغلوب سياسياً. على الورق، فازت لائحة جوان حبيش بـ14 مقعداً مقابل 4 لفؤاد البواري. ولكن، في المعنى السياسي هناك توازن دقيق للقوى، لأنّ الفارق الإجمالي الذي رجّح الكفّة كان ضئيلاً لم يتجاوز المئة صوت إجمالاً. وكان يمكن لأيّ تقصير من جهة اللائحة الفائزة أو جهد إضافي من جانب خصومها أن يقلب النتائج رأساً على عقب.
وأما الأحجام السياسية والعائلية فهي متقاربة بين اللائحتين: ماكينة آل هيكل الخازن ومنصور البون المدرَّبة، ومعهما رصيد آل أفرام وعائلات أخرى، وتُضاف إليها «القوات اللبنانية». وفي المقابل، «التيار الوطني الحر» والكتائب والأحرار وجوان حبيش وعائلات أخرى. ولكلٍّ من اللائحتين نقاط قوة ونقاط ضعف. ولذلك، بقي كلّ من الطرفين متفائلاً بالفوز جدّياً حتى اللحظة الأخيرة.
إنتصرت لائحة عون. ويقولون في الرابية: «لا بأس بالخصوم الأربعة الذين خرقوا اللائحة: (على التوالي وفقاً لتوزّع الأصوات: سيلفيو شيحا، فؤاد بواري، فادي فياض ورودريغ فنيانوس). فهؤلاء إجمالاً نعرفهم، وهم يتمتعون بروح التعاون وليسوا من النوع المشاكس. ولذلك، نأمل في أن تكون البلدية منسجمة وقادرة على العمل.
طبعاً، في الأوساط العونية كلام كثير عن مخالفات ارتكبها الخصوم، وخصوصاً لجهة الرشاوى. ويتمّ التداول برقم 15 مليون دولار تمّ دفعها لـ»كسر عون». ولكن، يعتقد كثيرون أنّ هذا الكلام غير واقعي، وهو من عدّة المعركة. وفي اللائحة المقابلة اتهامات مماثلة للخصوم بدفع المال الانتخابي.
«القوات اللبنانية» كانت في اللائحة الـ«أَنتي عونية». لكنها بقيت حتى اللحظات الأخيرة توحي بأنها تتعاطى بمرونة مع هذا الاستحقاق، وأنها تعطي لائحة أفرام الذي ترتبط معه بعلاقات متينة قديمة، لكنها تفضل إبقاء المعركة في طابعها الإنمائي لا السياسي. ويعتقد البعض أنّ جعجع لو خاض معركة جونية مسيّسة، وبالحدّة التي خاضها بها عون، لربما تمكّنت اللائحة من جذب الحجم القليل من الأصوات الناقصة، وربما كانت اللائحة قد فازت!
فـ«الجنرال» زار مقرّ لائحته عشية المعركة وأعلنها «معركة حياة أو موت». والشعار الذي رفعه: يريدون حذفي من الخريطة في عاصمة الموارنة، القضاء الذي هو بيت عون نيابياً. فإذا خسر جونية، صار سهلاً انتزاع كسروان كلها من أيدي العونيين في الانتخابات النيابية المقبلة.
بالمصادفة، أي بفضل أصوات قليلة، فازت لائحة عون على لائحة جعجع، مع التذكير بأنّ معراب تنفي تماماً أن تكون لائحة أفرام – البون – الخازن هي لائحة «القوات» بالمعنى السياسي للكلمة.
ولكنّ الدرس الجدير بأن يتلقّنه اللاعبون هو الآتي:
1- أظهرت معركة جونية أنّ أفراح التحالف بين عون وجعجع في زحلة «عاصمة الكثلكة» دامت أسبوعاً واحداً فقط، وأنها انتهت عند صخور «عاصمة المَوْرَنة» وأماكن كثيرة في الجبل. وقد خرجت إلى العلن في الخطاب العوني كميات من الحقد القديم الذي كبَتَهُ لقاء معراب.
2- سياسياً، خسر جعجع فرصة لتغيير صورة جونية، بما تمثله من رمزية مسيحية. وعموماً، خسر أيضاً في معارك مسيحية حسّاسة حيث كان يجب أن يتقاسم المجلس البلدي مع «الحليف» عون (الحدث مثلاً)، فيما خسرا معاً في سن الفيل.
وأما في دير القمر فالرابح سياسياً هو عون لا جعجع، لأنّ إسقاط دوري شمعون هو رغبة عونيّة جامحة لا رغبة «قواتيّة». فـ»القوات» ارتكبت خطأ فادحاً بضرب زعامة الحليف الوفيّ شمعون في عقر داره، لمصلحة مَن؟
3- ربح حزب الكتائب مرّة أخرى، على حساب النزاع العوني – القواتي، في جونية وكثير من المدن والبلدات في جبل لبنان، بعدما سجّل الأرباح في قطار التحالف الحزبي المسيحي في زحلة. وكان لافتاً حجم الأرباح التي حققتها الكتائب في معارك جبل لبنان.
4- كانت العائلات أساس اللائحتين في معركة جونية، وخصوصاً اللائحة غير العونية التي هي أساساً لائحة أفرام – البون – الخازن. ومع أنّ الأخير خسر معركة جونية «على المنخار»، لكنه ربح في غوسطا. ورسّخت جونية حضور القوى المناطقية والعائلية المسيحية التي أكدت قوتها في معارك الجبل، بعد زحلة، ولو خسرت في بعضها. وأما الظاهرة الأشدّ تعبيراً في هذا المجال فكانت في المتن.
وأما المعنى السياسي لمعركة جونية فهو: هل إنّ عاصمة الموارنة، عاصمة كسروان، ستبقى معقلاً لعون؟ فالجواب هنا يستتبع السؤال: إذاً، هل إنّ عون هو زعيم الموارنة، وتالياً هو الأحقّ في أن يكون رئيساً للجمهورية؟
هذا الخوف هو الذي دفع عون إلى الاستنفار وزيارة مقرّ اللائحة عشية يوم الانتخاب وإطلاق مواقف التجييش. وهو على الأرجح خشي من أن تكون هناك لعبة يجري إمرارها من تحت الطاولة لإنتزاع كسروان منه.
لمصلحة مَن؟
الواضح أنّ الاتهامات التي سيقت خلال الحملة الانتخابية، على مستوى الماكينة الانتخابية لا على مستوى القيادات، كانت موجّهة إلى «القوات اللبنانية». وظهر في جونية، وفي الحدث، أنّ النيات الصافية التي جرى التِماسُها في لقاء معراب محدودة الفاعلية في مواجهة المطبّات الانتخابية.
وتقول «القوات»: كيف نُتَّهم بالعمل لضرب ترشيح عون للرئاسة فيما نحن أعلنّا بوضوح، ومن دون أيّ التباس، تبنّي هذا الترشيح، ولو على حساب علاقاتنا مع حلفائنا السياسيين؟ وعلى العكس، نحن اخترنا أن يكون التحالف الانتخابي مع عون هو القاعدة في كلّ المناطق، وأما المواجهة فهي الخيار الاضطراري أو الاستثنائي.
لكنّ بعض المتابعين يقولون: «حتى الآن، أظهرت الانتخابات البلدية أنّ عون استفاد من التحالف أكثر من جعجع. فهو، إجمالاً، ربح مع «القوات» في المناطق التي لم يكن له أمل كبير في الفوز بها (زحلة ودير القمر). لكنّ عون لم يفتح لجعجع أبواب الحصون العونية. وجونية والحدث هما النموذج الأبرز.
وأظهرت الانتخابات أنّ الكتائب والقوى العائلية كانت مستفيدة من تحالف عون- جعجع أو تنافر عون- جعجع أكثر من عون وجعجع معاً. ولذلك، على الجميع أن يعيد درس الحسابات قبل الانتخابات النيابية… وقبل أن يتمّ الإفراج عنها!