الكلام عن معركة القلمون تجدّد مع الانتصارات العسكرية للمعارضة السورية في جسر الشغور وإدلب، فيما كان «حزب الله» أعطى موعداً لهذه المعركة بعد ذوبان الثلوج في نيسان. ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: أين مصلحة لبنان في هذه المعركة، وما تداعياتها على الداخل اللبناني؟
في كل مواجهة يخوضها «حزب الله» يحاول إيجاد التبريرات اللبنانية التي تدفعه إلى خوضها من قبيل أنّ الجيش اللبناني لا يملك الترسانة العسكرية التي تؤهله لمواجهة إسرائيل، وأنّ قتاله في سوريا كان يرمي لمنع التكفيريين من الدخول إلى لبنان، ولكنه لم يخبر اللبنانيين، على سبيل المثال، عن مصلحتهم في حربه اليمنية واستعداء السعودية والدول الخليجية.
وفي مطلق الأحوال، وبمعزل عن تبريرات الحزب التي لا تقنع أحداً، لأنّ أولويته إقليمية لا لبنانية، فإنّ كل المعارك التي خاضها كانت ارتداداتها سلبية على لبنان. وبالتالي، هناك خشية اليوم من انعكاس معركة القلمون على الاستقرار السياسي لجملة أسباب، أهمّها الآتي:
أولاً، معركة القلمون ليست معركة أيّام وحتى أسابيع، ما يعني انها ستتحوّل إلى خبز يومي للبنانيين من متابعة مجرياتها الميدانية إلى خسائرها البشرية. وبالتالي، ستحوِّل كل التركيز على مشهد المواجهات العسكرية، وتجمّد الوضع السياسي أكثر ممّا هو مجمّد، وهذا في حال لم تنزلق الأمور نحو الأسوأ.
ثانياً، لا أحد يستطيع أن يضمن سَير المواجهات العسكرية التي قد تُقحم الجيش في هذه المواجهات من منطلق دفاعي عن مواقعه، كما قد يكون هدف «حزب الله» توريط الجيش في المعركة التي لم يتمكّن الحزب من حسمها في مرحلة سابقة، والتي كان فيها في وضع أفضل، فيما هو اليوم متعب ومُستنزَف وفي وضع إقليمي غير مناسب.
ثالثاً، دخول الجيش في المواجهات سيجعل كل اللبنانيين معنيّين بها، فضلاً عن انّ دخوله يشكّل مسألة خلافية وانقسامية بين اللبنانيين الحريصين على دماء الجيش، وعدم زجّه في معارك افتعلها الحزب وخَطّط لها وبادرَ إليها.
رابعاً، إطالة أمد المعركة العسكرية سيؤدي إلى توتير الوضع السياسي وتَسخينه من خلال ارتفاع حدة السجال حول استمرار توريط فئة من اللبنانيين لكلّ الشعب اللبناني في معارك من دون أن يكون لهم رأي أو موقف من دور لبنان في هذه المواجهة أو تلك.
خامساً، سترفع معركة القلمون من منسوب التشنّج المذهبي السني-الشيعي، وستؤدي إلى إحراج «المستقبل» داخل بيئته لسبَبين: لأنّ «حزب الله» هو من افتعل المعركة وبادرَ إليها، ولأنّ التوتر المذهبي تجدد مع أحداث اليمن وهجوم الحزب على السعودية من باب مذهبي.
وبالتالي، الأمور ستكون مرشّحة للتصعيد والتسخين. وطالما الشيء بالشيء يذكر، فالشغب الذي شهده سجن رومية نقلَ الاشتباك السياسي إلى داخل «المستقبل»، فكيف بالحري اذا كان الحزب رأس حربة المواجهة المقبلة.
سادساً، حدّة الانقسام حول هذه المعركة، خصوصاً إذا طال أمدها، ستنعكس على الحكومة والحوار، ولا يمكن التعاطي مع أحداث القلمون على غرار أحداث اليمن، بفِعل القرب الجغرافي والترابط الميداني.
سابعاً، لبنان الرسمي لا يمكنه تغطية قتال «حزب الله» في القلمون، حيث انّ الحكومة تغطي الجيش اللبناني حصراً. وبما انّ الحزب بَادرَ ستتبرّأ الحكومة من المسؤولية وتُحمّله تداعيات خطوته، لأنه خلاف ذلك يجعل ايّ رد فِعل موجهاً ضد لبنان كله، وليس فقط الحزب.
ثامناً، لبنان الرسمي لا يستطيع أن يقدّم هدايا للنظام السوري الذي يخسر أينما كان في مواجهة المعارضة. وبالتالي، لا مصلحة لبنانية بالمساهمة في إنقاذ هذا النظام ومنحه فرصة تحقيق الانتصارات، خصوصاً أنّ هذا اللبنان يدرك جيداً أنّ أيّ مساهمة من هذا النوع سترفع عنه الدعم الخليجي الذي يضع كل ثقله لإسقاط النظام السوري، ما يعني تعريض علاقة لبنان بالخليخ وأوروبا وأميركا.
فإذا كانت إيران تريد أن تردّ الاعتبار للنظام السوري بعد هزائمه المتتالية الأخيرة، فليكن الردّ بعيداً عن لبنان الذي تقضي مصلحته بتطبيق سياسة النأي بالنفس، وأن يكون في موقع الدفاع لا الهجوم، بمعنى أن يتصدى الجيش لأيّ محاولات اختراق للحدود اللبنانية، الأمر الذي يقوم به أساساً بمهارة استثنائية، ونجحَ في الأشهر الأخيرة في ضبط الحدود بشكل مُحكم.
وبالتالي، «الحَركشة في وكر دبابير» القلمون قد تجرّ الويلات على لبنان، خصوصاً أنها تأتي في ظل تحوّلين: تحوّل إقليمي مع «عاصفة الحزم»، وتحوّل سوري مع الدينامية الجديدة للمعارضة. ولذلك، من يضمن ألّا تشكّل معركة القلمون مغامرة يدفع لبنان ثمنها غالياً؟
فمعركة القلمون على أبواب الشتاء هي غيرها بعد ذوبان الثلج، لأنّ المنطقة تبدّلَت رأساً على عقب على حساب محور المقاومة. وإذا كان هذا المحور حريصاً على ترييح «حزب الله» في لبنان لتمكينه من مواصلة مهمته في سوريا وغيرها، فإنه من الأجدى الحفاظ على الستاتيكو في القلمون لا كَسره نحو المجهول.
ولبنان يستطيع أن يطلب مؤازرة التحالف الدولي إذا اعتدَت عليه «داعش»، ولكنه لا يستطيع ان يطلب المساعدة في حال كان في موقع الهجوم على «داعش» ومن جانب «حزب الله» لا الدولة اللبنانية، فضلاً عن أنّ الطرف المهاجم يتكبّد خسائر فادحة في الأرواح، والحرب تحصل في ظلّ ميزان قوى جديد، سياسياً وميدانياً.
وقد بَيّنت التجربة انّ كل أهداف «حزب الله» تتعارض مع مصلحة لبنان، ومعركة القلمون هي هدف إيراني لا لبناني، وكل كلام عن أهداف أخرى لحماية لبنان من الإرهابيين هي غير صحيحة وترمي فقط لتغطية الهجوم على القلمون وتبريره.
فموقف لبنان الرسمي يجب أن يكون واضحاً: إمّا قرار المواجهة يكون من مسؤولية الدولة وحدها، أو أنّ الأخيرة تكون في موقع الدفاع عن نفسها، أو أنّ الحزب يخوضها منفرداً من دون أيّ غطاء سياسي ويتحمّل تبعاتها على لبنان وتداعياتها…