Site icon IMLebanon

معركة حلب التي كشفت «ارتباك» موسكو… وواشنطن!

عندما تتبنى دولة كبرى أساليب أقل ما يقال فيها إنها «صغيرة» أو «مرتبكة»، كما هي حال روسيا في الحرب السورية الآن، تكون إما في منتهى الثقة بالنفس لشعورها بأنها صاحبة الكلمة الأقوى، أو أنها في غاية الارتباك لإدراكها أن ما تفعله، مع حليفها نظام بشار الأسد، لن يؤدي عملياً إلى ما تصبو إليه. ويبدو أن الأمرين ينطبقان على حال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في معركة حلب المستمرة منذ أكثر من أسبوعين.

فليس سراً أن هذه المعركة، التي بدأت فوراً بعد تعليق وفد المعارضة مشاركته في مفاوضات جنيف، استهدفت الضغط على الوفد لتغيير موقفه الرافض لبقاء الأسد في المرحلة الانتقالية التي يتم البحث بها حاليا، وبالتالي إنقاذ النظام من مصيره المحتوم. ولذلك تحديداً، بادر بوتين إلى اعتماد «صغائره» هذه في تبرير الحرب على حلب أولاً، ثم الكذب بشأنها وبشأن الهدنة التي سميت «نظام تهدئة»، مرة بعدم شمولها المدينة، وأخرى بأن التهدئة تقتصر على اللاذقية والغوطة الشرقية، وثالثة بأن القصف يستهدف «داعش» و «جبهة النصرة» من دون غيرهما… إلى حد أن وزير خارجيته سيرغي لافروف اتخذ عدداً من المواقف التي يناقض واحدها الآخر، بل وحتى يكذبه علناً وبكل وضوح كما يأتي:

> قبل بدء المعركة في 19 تموز (يوليو)، صرح لافروف بأن انسحاب الوفد من «جنيف 3» يؤكد أنه لا يمثل المعارضة في سورية من جهة، وأنه من جهة أخرى لن يؤثر على المؤتمر الذي سيستأنف في موعد (حدده من تلقاء نفسه) هو يوم 10 أيار (مايو)، وأنه سيعقد بمن حضر لأن وفد المعارضة، كما قال، «يريد نسف التسوية السياسية في سورية».

> بعد ارتكاب النظام مجزرة تلو أخرى (نحو 250 قتيلا خلال 4 أيام)، سارع لافروف إلى ادعاء أن المعارضة، وليس النظام، هي من نفذ هذه المجازر. ثم أنه، إثر اتصال أجراه معه الوزير الأميركي جون كيري، أدلى بتصريح قال فيه إن «التهدئة» تشمل اللاذقية والغوطة الشرقية وليس حلب أو حتى ريفها. وبعد ذلك بساعات، أعلن أنه لا ضمانات بوقف النار لا في هاتين المنطقتين ولا في حلب.

> بعد اتصال آخر مع كيري، قال إن هناك أملاً بوقف القتال خلال ساعات. لكنه، إثر زيارة قام بها المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا إلى موسكو، تحدث عن هدنة لـ24 ساعة في كل من اللاذقية والغوطة… من دون أن يذكر حتى كلمة حلب؟!.

لم يكن خافياً على أحد، خصوصاً على كيري ودي ميستورا، أن «صغائر» لافروف تريد إعطاء الأسد، ومعه ميليشيات إيران و «حزب الله»، وقتاً كافياً لحسم معركة حلب، لكن الأيام مرت (أسبوعان كاملان) من دون التمكن من إنجاز الهدف. على العكس، قامت الدنيا ولم تقعد على موسكو بالذات، لأنها لم تمارس ضغطاً على الأسد طالبها به العالم (مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) لوقف مجازره في حلب.

وهكذا، صدر من موسكو يوم 3 أيار موقفان كشفا طبيعة «الارتباك» الروسي (الكذب العلني) من ناحية، وزادا من ارتباك المجتمع الدولي إزاء حقيقة موقفها من ناحية ثانية. أولهما، كان تصريحاً من لافروف قال فيه إن الأسد ليس حليفاً لروسيا، إلا أنها تقاتل معه ضد الارهاب في سورية. أما الثاني، فكان الإعلان عن سحب 30 مقاتلة روسية من قاعدة حميميم، بالطريقة ذاتها (فجأة ومن دون سابق إنذار) التي أعلنت فيها موسكو قبل شهور عن سحب «الجزء الأكبر» من قواتها وطائراتها الحربية في سورية.

والأدعى للتساؤل في هذا السياق، أن الإعلان بعد ذلك عن اتفاق أميركي/ روسي على هدنة لـ48 ساعة في حلب، تبعه تصريح من الأسد قال فيه إنه أبلغ بوتين في اتصال بينهما أن معركة حلب لن تتوقف «قبل سحق قوى المعارضة فيها».

والسؤال هو: هل يعيد التاريخ نفسه، أي سحب القوات الروسية في 15 آذار (مارس) الماضي تحضيرا لمحادثات «جنيف 3» بمشاركة الأسد، وسحب المقاتلات الآن ضغطاً عليه للعودة إليها، أم أن المسألة روسية أولاً وأخيراً، وتتعلق بارتباك قيادتها بين «الحليف الذي لم يعد حليفاً»، لكنها تقف إلى جانبه، كما قال لافروف، وبين شريكها الآخر في تسوية الحرب السورية (الولايات المتحدة)، بعد أن أعطاها كل ما تريده وتحتاج إليه لإنجاز هذه التسوية؟.

بل أكثر: هل كانت روسيا، التي قال رئيسها في وقت سابق إنه ترك في سورية قوات تكفي لحماية النظام ومقاتلة الارهاب، تتوقع أن تتمكن قوات الأسد وميلشيات إيران و «حزب الله» من حسم المعركة في حلب… وخاب ظنها؟، أم أن ما في ذهن موسكو يختلف جذرياً عما في خطة الأسد وحليفه الأول في طهران… لذلك كان هذا «الارتباك» الروسي في الفترة الأخيرة؟.

الواقع أن من شأن الدول الكبرى أن تكون لها سياسات كبرى، بما فيها الأساليب والأدوات المستخدمة فيها. وقد تقع دول كبرى في ارتباك، لكنها غالباً ما تعترف بالخطأ وحتى تملك شجاعة التراجع عنه، كما حدث مع بريطانيا وألمانيا اللتين استقبلتا، في عز معركة حلب، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب، ومع فرنسا التي دعت إلى عقد اجتماعين في باريس، أحدهما مع السعودية والإمارات وتركيا وقطر ووفد المعارضة السورية، والثاني مع مجموعة ما يسمى «دول أصدقاء الشعب السوري».

فهذه الدول الثلاث، وهي دول كبرى، فعلت ذلك ليس فقط تنديداً بمجازر الأسد في حلب، إنما أيضا وفي شكل خاص رفضاً لموقفي روسيا والولايات المتحدة اللذين يصح القول إنهما كانتا معا، وعلى رغم تهديدات كيري للأسد (إذا لم تلتزم، ستكون هناك تداعيات) «مرتبكين» قولاً وفعلاً منها.