لم تكن «معركة الكرامة» التي خاضها الفدائيون الفلسطينيون في مثل هذا اليوم (21 آذار/مارس 1968) مجرد معركة أعادت الثقة للأمة بنفسها وبمقاومتها وبقدرتها على مواجهة الخلل في موازين القوى عبر موازين الإرادات، بل كانت أيضاً معركة بإبعاد كبيرة ودلالات كثيرة.
قد يبدو اليوم الحديث عن «معركة الكرامة»، وبعد 56 عاماً على حصولها في بلدة الكرامة في أغوار الأردن (الشريعة كما كانوا يسمونها) تكراراً لأحاديث كثيرة تناولت تلك المعركة التي أكدت كيف ان «فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله»، إلّا أن الحديث عن معركة الكرامة اليوم في أجواء ملحمة «طوفان الأقصى» هو أمر ضروري لأكثر من سبب.
أولاً: ان معارك الشعب الفلسطيني، ومعه أمته العربية والإسلامية لم تتوقف منذ ان أنطلق المشروع الصهيوني على هذه المنطقة محمولاً على أكف القوى الاستعمارية والعنصرية، وأن قرناً ونيّف من الصراع مع هذا المشروع كان مليئاً بالمعارك والانتصارات والهزائم والتسويات ومحاولات تصفية القضية، لكنه كان دائماً محكوماً بقانون أولوية الصراع مع هذا المشروع، أيّاً كانت النتائج.
ثانياً: ان تلك المعركة التاريخية قد جاءت بعد أشهر قليلة على نكسة الخامس من حزيران 1967 حيث تمكن العدو من هزيمة اكثر من ثلاثة جيوش عربية واحتلال أراض في ثلاث دول عربيه، وفي اطلاق موجة واسعة من اليأس في صفوف الامة، التي ظن كثيرون من نخبها وأبنائها بعد نكسة حزيران انها قد دخلت مرحلة انحطاط وهزيمة ستمتد مئات السنين…
وبهذا المعنى، كانت «معركة الكرامة» شبيهة، مع فارق الحجم والتأثير مع معركة «طوفان الأقصى» التي كانت انتصاراً مؤزراً منذ يوم السابع من اكتوبر حتى اليوم (بعد 167 يوماً) مع صمود المقاومة والشعب في فلسطين ومساندة حركات المقاومة والتحرر على مستوى الأمة والعالم.
فالكرامة، كما «طوفان الأقصى»، كما حرب لبنان عام 1982، كما تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، كما نصر تموز – آب 2006، كما العديد غيرها من معارك أثبتت فيه المقاومة قدرتها على الانتصار.
ثالثاً: حين انتصرت قوات العاصفة في حركة (فتح) على محاولة التوغل الإسرائيلي باتجاه شرق الأردن، كانت الأجواء الرسمية، وحتى الشعبية، تعتقد ان جيش العدو لا يقهر، وان انطلاقة حركة (فتح) نفسها في 1/1/1965 كانت مغامرة تؤدي الى تورط الدول العربية في حروب خاسرة، بل أن (فتح) نفسها كانت متهمة انها تعمل لحساب حلف (الناتو)، الراغب في توريط مصر، عبد الناصر، في حرب تؤدي الى هزيمة كبرى…
كان كل تفكير يومها بمقاومة العدو يعتبر في أحسن الأحوال مغامرة غير محسوبة، بل ان كل عمليات المقاومة كانت تعتبر المسؤولة عن كل ما يصيب الدول العربية من أضرار وخسائر كنتيجة لردود صهيونية وأميركية وغربية على هذه العمليات.
رابعاً: كانت «معركة الكرامة» انتصاراً جعل الأجواء الشعبية العربية، وحتى الرسمية، تتغيّر إيجاباً وترتفع معها الأصوات المعارضة لتسويات مذلّة مع العدو الصهيوني، وهي تسويات تأخذ شكل التطبيع مع العدو هذه الأيام…
بل سمحت تلك الأجواء المرافقة لمعركة الكرامة بتصعيد حرب الاستنزاف التي قادها يومها جمال عبد الناصر، والتي كان من أبرز شهدائها الفريق أول الشهيد عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المصرية المسلحة، الذي استشهد وفي مثل هذه الأيام من عام 1969في خط المواجهة الأمامي على قناة السويس، وهذه الأجواء هي التي نراها اليوم مع ملحمة «طوفان الأقصى»، والتي نشهد تداعياتها في اليمن ولبنان والعراق وسورية، والتي يقرّ العدو فيها قبل الصديق انها أوقفت اندفاعة أميركية لفرض التطبيع على معظم الدول العربية كطريق لتصفية نهائية لقضية فلسطين.
خامساً: وبقدر ما أعتز الفلسطينيون والعرب والمسلمون وأحرار العالم بانتصار الثورة الفلسطينية بقيادة (فتح) في «معركة الكرامة»، بقدر ما أتضح عجزهم عن صيانة هذا الانتصار وتحصينه بوجه طوفان من نوع آخر هو طوفان الصراعات الفلسطينية – الفلسطينية، والعربية – الفلسطينية، والعربية – العربية، والعربية – الإسلامية التي طبعت مناخات المنطقة على مدى خمسين عاماً منذ معركة الكرامة حتى اليوم.
واليوم يبدو انتصارنا في «طوفان الأقصى» محتاجاً كذلك الى تحصين على كافة المستويات الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية عبر الاستفادة من دروس المرحلة السابقة، وهي مرحلة ما يمكن تسميتها بمرحلة الحروب الأهلية داخل أقطارنا وبينها، والتي أدت الى ما نحن عليه اليوم .
ان أبرز الدروس المستفادة من تجربة الخمسين سنة الماضية، بل من كل العقود التي سبقتها هو التأكيد على تلازم المقاومة مع الوحدة ، وطنية كانت أم عربية أم إسلامية أم عالمية ، والحرص على إدارة كل التناقضات والصراعات والتباينات القائمة بيننا على قواعد الفكرة التي أرساها الإمام الشيخ رشيد رضا حين قال: «لنتعاون فيما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليه».