Site icon IMLebanon

معركة «استعادة الجنسية» أم «الشرعية»؟

كما في ملف النفايات، كذلك في النقاش الدائر حول الجلسة التشريعية العتيدة في 12 و13 الجاري، فاحت روائح طائفية غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الأهلية تحت عنوان «ميثاقية» الجلسة أو قانون «استعادة الجنسية»، الذي أجمعت الكتل الحزبية المسيحية على المطالبة بإقراره، فيما أُبديت ملاحظات من كتل نيابية أخرى مثل «المستقبل» و»اللقاء الديموقراطي» و»التنمية والتحرير» و»الوفاء للمقاومة».

هذا الاصطفاف الذي يبدو طائفياً للوهلة الأولى عَكَسَ تباينات «تقنية» حول المشروع، لا بل لم يخلُ في بعض الأحيان من «مزايدة» نواب مسلمين على آخرين مسيحيين في هذا الخصوص حرصاً منهم على عدم رفع عدد المجنسين من الطوائف الإسلامية من خلال هذا المشروع، كقطع الطريق أمام استعادة نصف سكان البرّ السوري الجنسية اللبنانية.

لكن في المقابل، رغم اقتناع نواب من كتلة «القوات اللبنانية» وآخرين من تكتّل «التغيير والإصلاح» بجدية الملاحظات المطروحة من نواب مثل النائب سمير الجسر وإبلاغه شخصياً بذلك، إلا أن أجواء الكتلتين المسيحيتين تتحدث عن «مناخ طائفي» في الملاحظات المثارة حول المشروع، وتذهب إلى حد الإعراب عن «قلق مسيحي» من اتجاه إسلامي عام (سني شيعي) لتجاهل «حقوق المسيحيين» في استعادة الجنسية، مع العلم ان من اثار مثل هذا «المناخ» هو نائب واحد في حزب واحد هو عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب حسن فضل الله الذي سبق أن قال في أحد الاجتماعات النيابية إن عائلته طُردت من لبنان في أيام المماليك وأن استعادة الجنسية يجب ان تشمل من تركوا لبنان قبل إحصاء 1924 بما يتيح لـ300 ألف شخص من هذه العائلة الموجودين في دولة عربية استعادة هذه الجنسية.

هذه الصورة أثارت أسئلة حول أسباب افتعال قضية طائفية حول ملف وطني عام، أو تضخيم البُعد الطائفي في هذا الملف، أو إثارته على نحو وكأن التيار «الوطني الحرّ» و»القوات اللبنانية» حريصان على «حقوق» المسيحيين ونواب الكتل الأخرى يفرّطون بها.

ولم تكن نتيجة مراجعة لمواقف الطرفين سوى استنتاج أن حرصهما على استنهاض العصب المسيحي من خلال هذا المشروع إنما يأتي نتيجة بحث كل من «التيار» و»القوات» عن شرعيته في الشارع المسيحي من أجل تثبيت هذه الشرعية وتكريسها، وبالتالي فإن ما بصدده الجانبان ليس محاولة لـ«استعادة الجنسية» بقدر ما هو محاولة لـ»استعادة الشرعية»، برأي بعض المتابعين.

ذلك أنه وبمعزل عن أي انحياز سياسي لـ»القوات» أو لـ»التيار»، أو اتهام أي منهما، تفترض أي قراءة موضوعية لحاجة كل منهما الدائمة لاستنهاض الشارع المسيحي حول عناوين غير واقعية في بعض الأحيان، كما هو حال قانون «استعادة الجنسية» الآن، الوقوف أمام الأسباب التاريخية التي حَرَمت كلاً منهما جزءاً من شرعية تمثيل المسيحيين ما يضطرهما إلى البحث عنها كلّما سنحت الفرصة.

والواقع أن هذا المسار انطلق منذ العام 1989 حيث كان رئيس حزب «القوات اللبنانية» (حالياً) الدكتور سمير جعجع الرجل الأقوى عند المسيحيين منذ انتصاره على إيلي حبيقة وقواته المسلّحة في المنطقة «الشرقية» العام 1986. وإذ برئيس الحكومة الانتقالية آنذاك العماد ميشال عون ينتزع بعضاً غير قليل من «شرعية» جعجع مع إطلاقه حربيْ «التحرير» (ضد النظام السوري) و»الإلغاء» (ضد جعجع)، بحيث صار الرجل الاول عند المسيحيين بوصفه «حامي السيادة» في وجه «الاحتلال السوري» ووصايته، والمؤتمن على مؤسسة الجيش في وجه الميليشيات.

أما عون، الذي اكتسب هذه «الشرعية» ومعها عطفاً مسيحياً غير مسبوق، فقد توّج هذا المسار في انتخابات 2005 النيابية حيث حصد سبعين في المئة من أصوات المسيحيين ما دفع النائب وليد جنبلاط وقوى سياسية أخرى إلى وصف ما جرى بأنه عبارة عن «تسونامي».

لكن الجنرال الذي تبيّن للرأي العام المسيحي (بعد الانتخابات) أنه تحالف مع رموز «الوصاية» السورية ومن ثم أقام «تفاهماً» مع ميليشيا «حزب الله» (مخالفاً بذلك منطق حرب «الإلغاء» ضد ميليشيا «القوات»)، فقد خسر أيضاً بعضاً غير قليل من «شرعيته»، وقد ظهر ذلك بوضوح في انتخابات 2009 حيث انخفضت نسبة التأييد المسيحية له من سبعين في المئة إلى خمسين.

وبذلك أصبح عون وجعجع متعادلين، يسبق أحدهما الآخر بنقطة أو اثنتين على أبعد حد في استطلاعات الرأي وفقاً للظروف السياسية ولموقف كل منهما إزاءها. وبذلك أيضاً صار إذا واجه أحدهما أي شريك في الوطن حول قضية معيّنة لا تكون عينه على تسجيل نقاط على هذا الشريك بقدر ما تكون من أجل أن يسبق بالنقاط الطرف المسيحي الخصم.

والدليل على ذلك أنه في عزّ الحوار بين الجانبين، الذي أنتج «إعلان نيّات» مشتركاً، بعد صراع دموي دام عاماً كاملاً وسياسي دام ربع قرن ونيّفاً، كان الاتفاق على إجراء «استطلاع رأي» ثالثهما، في محاولة من كل منهما لإثبات أنه الأقوى من أجل استعادة شرعية تمثيله الأول للمسيحيين، وإن كان الاستطلاع المشار إليه سيطال كل الشخصيات المسيحية.

معنى ذلك أن «المصالحة» بين عون وجعجع، أو طيّ صفحة الماضي الأليم بينهما لا يعنيان على الإطلاق طيّ صفحة السباق على زعامة المسيحيين الذي يعلو فوق كل اعتبار، ويبقى الأولوية الأولى بالنسبة إليهما رغم العواصف والزلازل السياسية والعسكرية التي تحيط بلبنان والمنطقة من «الربيع العربي» وصولاً إلى زمن «داعش»، ذلك أن موقع الزعامة الأولى لدى الطوائف الأخرى حُسِمَ، أما عند المسيحيين فتعددية الزعامة سيدة الموقف.

وإذا كانت أزمة حزب الكتائب اللبنانية تنتمي إلى مسار آخر باعتباره كان في زمن الحرب الحزب المسيحي «الشرعي» الأول، قبل أن يتعرّض لسياسة قضم متواصلة من «القوات اللبنانية» بداية ومن ثم من التيار «الوطني الحر»، فإن مشكلة رئيس «القوات» الدكتور جعجع عند بعض المسيحيين تكمن في «ماضيه»، بفعل الممارسات الميليشيوية التي كانت تمارس خلال فترة الحرب، بينما تكمن مشكلة النائب عون في «مستقبله»، أي في بحثه الدائم عن المستقبل الذي يمكن أن يعيده إلى قصر بعبدا.