Site icon IMLebanon

معارك «فجر الجرود» وما يليها من توقُّعات.

 

بدايةٌ لا بدّ منها، نذكُرُها بكل راحة واطمئنان: ها هو الجيش اللبناني يلحق الإنجاز بالإنجاز، وها هي الإشارات العملانية لمعاركه المظفرة ضد الإرهاب قد وصلت إلى مرحلتها الأخيرة، وهو بذلك يعمّق الإثبات بأنه طائل وقادر، وأن على الجميع أخذ هذا الواقع بعين إعتبارية جديدة توطئة لتركيز الأسس المقبلة للبنان الجديد، السيّد الحر والمستقل، وها هم اللبنانيون يجمعون على ما تبقى لهم من واقع فاعل وملموس ومكانة وطنية شاملة ورمز سياديّ توحيدي، وقد أثبت الجيش وما يزال يثبت مع كل حدث مستجد، انتماءه المطلق إلى هذا الوطن اللبناني، وشعبه المُعاني والمكابد والذي زادته الأحداث والتطورات الداخلية والمستجدات الإقليمية والدولية، وعياً وإدراكاًَ وتحسّباً، ولئن كانت الأوضاع السلبية خلال الأعوام القليلة الماضية، قد دفعت بالكثير من فئاته إلى مواقع التناقض والتناهض، وتضخيم الإفتراقات التي كانت قائمة، وتحقيق افتراقات جديدة ما بين مكونات وطنية تمثلت في حالة توحيدية عظيمة، وقد هبّت بجموع الشعب اللبناني التي استفاقت على أوضاعها الكارثية بعد جريمة اغتيال شهيد الوطن الرئيس رفيق الحريري، إلاّ أن هذا التّوحد، جابهته مع الأسف فئات صمّمَتْ على تأجيج الخلافات الوطنية، وطوّرتها إلى حدّ الإنصهار ما بينها وبين قوى إقليمية طائفية ومذهبية، سبق لها أن أضمرت لكل ما هو عربي، من خلال نظرة شعوبية وتصرفات طامحة إلى استعادة أمجادها الأمبراطورية على حساب الحقيقة الوطنية – العربية التاريخية، وقد أفلحت هذه القوى في استغلال جملة من الأوضاع الإقليمية والدولية التي تشارك النهج الإيراني الطائفي بصورةٍ معلنة، متسترة بثوب باهر للعرب عموما وللّبنانيين خصوصا، وهو ثوب مقاومة الكيان الصهيوني، فكانت جموع «المبهورين» بالنهج المقاوم «وهم الغالبية الساحقة من اللبنانيين»، إلى جانبها في كل مواقفها المعادية والمقاومة لإسرائيل ولأطماعها في دنيا العرب، وفي طليعتها، تلك الأطماع التي طاولت لبنان عموما وجنوبه خصوصا، فكان الإجماع الوطني منصبا على تبني نهجها الجهادي، بالرغم من أن هذا النهج قد سبق له وبمؤازرة النظام السوري أن احتكر الشأن المقاوم بأسره، وجيّره إلى أنصاره و«حوارييه»، وما تم بهذا الخصوص معروف ومشهود.

ومع الوقت، تمكنت هذه الفئة من الإطباق على لبنان قطعة قطعة، وفرضت سيطرتها على مفاتيح السلطة فيه وفقا لأحداث التاريخ القريب الذي تم من خلاله فرض نهجها وتوجهاتها على الجميع، فكانت نتيجة هذا التمكن، تغيير جذري في تقييم الواقع المقاوم، سواء لدى مجمل العالم العربي أم لدى غالبية الشعب اللبناني، حيث انقلبت الأوضاع إلى تقييم مختلف ينقل الواقع المقاوم من خانة مواجهة إسرائيل، إلى خانة الإنغماس الكامل بالنهج الإيراني والطموحات الفارسية.

وأعقب ذلك سلسلة من التطورات المحلية التي زادت اللبنانيين فرقة وتباعدا بمن فيهم الفئات التي انتمت وتوحدت تلقائيا في ما أُسْمي آنذاك، بفريق 14 آذار، تلك المرحلة التاريخية المشرقة من تاريخ لبنان الحديث، إلاّ أنها ما لبثت مع الأسف، ولأكثر من سبب، أن انفختت كل دفوفها، وتفرّق أركانها كلٌّ يغنّي على ليلاه، ومن لبث منهم على، تمسّك بخطوط وخيوط 14 آذار المعنوية، ولم تعد تجمعه مع كامل الفريق الذي كان، أية خيوط عملانية، وأصبحنا مع الأسف أمام لبنان جديد:

دولتُهُ تحّولتْ إلى أ) دولة هشّة التكوين والمعالم وحافلة بالمآخذ ومتّهَمَة بوصم معظم مكوناتها بشتى أنواع المآخذ. ب) ودويلة مسلّحة أطبقت على كل المواقع والسلطات، تجاوزت في تصرفاتها حتى الخيوط الظاهرية التي تُمكّن الدولة «الأم» من ستر عوراتها والتجاوزات التي تسيء إلى وجودها ووهج سلطانها، ولنا مؤخرا في تصرفات الدويلة في سوريا وتطويرها إلى فرض سياسات معينة على لبنان لا ترتضيها قطاعات كبرى من أبنائه، وباتت تتخذ «قراراتها» السياسية والسيادية بمعزل عن مجلس الوزراء وعن مجمل التوجهات الوطنية العامة، وها هي المواقف من الحرب في جرود عرسال وما حولها وتفاصيل ما تم بشأنها، تملأ الأجواء الإعلامية بخصوص شِقّها الذي تولّاه الحزب والنظام السوري متكافلين متضامنين، متسلحة بتوافقات مسبقة مع «جبهة النصرة» بعد أن كانت ترفض أن «تجيزها» للسلطة الشرعية، تاركة للجيش اللبناني، «داعش» والمساحات الشاسعة والتوجهات والأساليب الوحشية والإنتحارية التي تتسم بها التصرفات الداعشية، وها هو الجيش اللبناني قد أخذ على عاتقه بكل فخر واعتزاز وبإجماع وطني شامل غير مسبوق، لتلك المهام التحريرية الباهرة، الأمر الذي يشكل القوة الأساسية لأي جيش تتمثل به وبقيادته عزة الوطن وكرامته وسيادة دولته المطلقة على كل أرضه. مشيرين في هذا الصدد إلى الأدوار الأمنية البارزة والفاعلة لقوى الأمن العام وشعبة المعلومات ومخابرات الجيش وانجازاتها الإستباقية المتتالية التي جنّبت لبنان جملةً من الكوارث.

وها هو الجيش اللبناني اليوم، يقتحم معاقل الدواعش في عمليات عسكرية هي الأضخم في مسيرة إنجازاته، وها هي قيادته بتوجيه من السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء ورئيسي الجمهورية والحكومة، مرتاحة تماما إلى ما تدور به الدوائر في تلك الجرود الوعرة، وها هو الجيش يتصرف بكفاءة مطلقة وشفافية صادقة، ما زالت تنفي في بياناتها اليومية أن هناك أي تنسيق سواء مع حزب الله أم مع الجيش السوري المنطلقين أساسا من الأرض السورية الملتهبة بأحداثها.

وها هو الوضع الداخلي اللبناني شعباً وسلطات دستورية يتطور بمواقفه وقناعاته إلى الموقع الذي يعيد للدولة وسيادتها وجيشها وحدانيةً يفرضها الدستور والقانون ومصالح اللبنانيين العليا.

وها هي وسائل التواصل الإجتماعي المنتشرة على المدى اللبناني كله تغرّد بكثافة ملحوظة بكلام وطني خالص، مقدّرة للجيش، دوره الواحد الأحد في ميدان القتال وفي المهام الكبرى التي أوكلت إليه، الأمر الذي أعطى للموقف الشعبي اللبناني شمولية وطنية، غير مسبوقة تتسم بالصدق والحماس.

فإلى الدولة اللبنانية التي قرّرت، تحقيق موقف سيادي بامتياز، والقيام بهذه الخطوات التحريرية، رؤساءً، ومجلس وزراء، وقيادات سياسية وشعبية، وإلى الجيش الباسل الذي يقدم دون حساب خيرة أبنائه على مذبح السيادة والإستقلال الحقيقيين، تحيات وإشادات من القلب، حيث أنه المؤسسة التي كانت ولا تزال تشكل الأمل الأساسي لكل مواطنيه، والوسيلة الأمنية الفضلى لحماية الوطن، وكم نتمنى أن تصح التوقعات الجادّة بأن لبنان، قبلَ معارك «فجر الجرود»، سيكون مختلفا عمّا بعدها.