عند الثانية عشرة من منتصف الليل، تقفل وزارة الداخلية أبوابها أمام «الدون كيشوتيين» الراغبين في مصارعة طواحين الهواء النيابية. هم يدركون، والناس تدرك، وهم يعرفون أنّ الناس تعرف، أن لا انتخابات في موعدها الدستوري، وأنّ المسرحية الهزلية التي تلعب على مسرح الرأي العام، لن تجد من يصفّق لها ولا من يكترث لأحداثها أو يصدق مشاهدها، لأنها من صنع خيال لاعبيها..
ومع ذلك يسير هؤلاء جنب حائط القانون ويلتزمون بمقتضياته، لا احتراماً لقدسيته ولموجباته، ولكن خوفاً من تهريبة قد تفقد التمديدين نعمة «البطالة المدفوعة» وتعرّي الطامحين للجلوس مكانهم، من أحلام اليقظة بنيابة ليست في اليد ولا على الشجرة.
تتواطأ الطبقة السياسية بكامل مكوناتها بالتمثيل على جماهيرها باتقان رفيع المستوى، لأدوارها. تتعاطى مع الاستحقاق وكأنه حاصل، مع أنّها تبصم «على العمياني» أنّ الاستحقاق افتراضي وموجباته نظرية ومواعيده حبر على ورق.
ولكن، في ما لو صدق «منجّمو» الاستحقاق وصارت لصناديق الاقتراع فرصة إحيائها من قبور الظروف الأمنية التي تتذرع بها وزارة الداخلية كي تدفن الانتخابات، فستكون القوى السياسية أمام تحدي ترتيب بيوتها الداخلية على عجل، وتسوية تحالفاتها الهشة التي أكل عليها زمن الخلافات وشرب، كي تتمكن من مواجهة الخصوم بأقل الأضرار الممكنة.
هنا يتساوى المحوران في العلل. لكل منهما جردة حساباته الخاصة التي تفرض عليه أن يفتح دفاتره العتيقة ويستحضر الوثائق والقرائن التي تساعد على «قصقصة» الدوائر الانتخابية، وتوزيع الحصص بين شركاء الصف الواحد.
على ضفة «14 آذار»، الخلافات بين «الكتائب» و«القوات» يكتب عنها فصول وفصول. لها في كل عرس دائرة، قرص. كما أنّ شهية الحزبين مفتوحة على التهام المقاعد المسيحية التي يضعها «تيار المستقبل» في جيبه بفعل «قانون الستين».
تخطط معراب لكسر الطوق فتوسع دائرة نفوذها النيابي من خلال تكبير حجر كتلتها. سبق أن قالتها بالفم الملآن ولمحت مراراً إلى أنّ حضورها الشعبي يتفوق على تمثيلها النيابي، ولذا لا بدّ من موازنة المعادلة، من خلال ضمّ رزمة من أصحاب السعادة إلى كتلتها النيابية.
وإذا اعتبرنا أنّ الانتخابات ستنتقل من علم الغيب إلى أرض الواقع، فيفترض بـ«الأخ الأكبر» للجناحين المسيحيين الآذاريين، أي «تيار المستقبل» أن ينقّح العلاقة الثنائية، لا بل الثلاثية، من شوائب الخلافات المناطقية والنزاع المعلن على المقاعد المسيحية.
ويتبيّن وفق المؤشرات الأولية، أنّ التصفيات الأولية بين الحلفاء، ستتركز بشكل سريع على دائرة البترون، حيث يبدو أنّ سامر سعادة مصر على العودة إلى جذوره البترونية، بينما تتغنى معراب بشعبية انطوان زهرا في القضاء الشمالي وتمنن حلفاءها بأنّه رأس حربة «14 آذار» في هذه البقعة، في المقابل لا توحي الصيفي أنّها بصدد التخلي عن المقعد الماروني في طرابلس.
في موازاة ذلك، تنذر منظومة التحالفات بإمكانية خوض هذين الحزبين حرباً شرسة في قضاء زحلة بسبب شهية القوات المفتوحة على ضمّ مزيد من المقاعد إلى حصتها بحجة أنّها الرقم الأول في عاصمة الكثلكة، مع أنّ لائحة ترشيحاتها الحزبية لم تتجاوز طوني أبو خاطر وشانت جانجيان، بعد اعتكاف جوزيف المعلوف عن الترشح، ما استدعى تساؤلات عن البديل الذي ستطالب به «القوات».
وإذا كان قضاء المتن أقل مناطق التماس حماوة، فإنّ دائرة الأشرفية لا تشي بأنّها قد تصب الزيت على النار بين الحليفين حيث يبدو أن نديم الجميل صامد ضمن الرزمة الكتائبية في حين أنّ «القوات» قد تكتفي بالمقعد الأرثوذكسي، مع أنّها ترفع سقف طلباتها إلى حدود مقعد أرمني إضافي.
فضلاً عن المعارك التمهيدية التي ستخاض في بيروت الأولى، كسروان، جبيل، الكورة وعكار التي ستسعى «القوات» و«الكتائب» إلى خرقها نيابياً، من خلال مرمى الحليف «الأزرق».
أما في مقلب قوى «8 آذار»، فتبدو المزاركة بين أهل البيت الواحد أقل حدة، وهي ستتكرس بشكل خاص بين «التيار الوطني الحر» و«المردة»، لا سيما في المناطق الشمالية، وفي البترون خصوصاً وتحديداً حول مقعد الجرد، لا سيما وأنّ سليمان فرنجية لن يسمح لأي طامح «برتقالي» بأنّ يقترب من إمارته الزغرتاوية، في حين أنّ ثلاثية الكورة كفيلة بحلّ أي خلاف.
في زحلة، لا تزال العلاقة الملتبسة مع ايلي سكاف تسمح بتعرض جدار الدعم التحالفي لخروقات نوعية إذا ما فرضت المعركة ذاتها بين ليلة وضحاها. في حين أنّ العماد ميشال عون يتعاطى مع دائرة جزين على أنّها من ضمن «المحمية البرتقالية»، إلّا أنّ عينيّ الرئيس نبيه بري لا تزال محمرتين من معركة العام 2009، ولم تهضما شوكة «إخراجه» من الخاصرة المسيحية في الجنوب.. والأرجح أنّ الرجل لن يستكين أو يرفع راية الاستسلام.
فهل بمقدور أهل الحل والربط أن ينزعوا فتائل التفجير بين مكونات الحلف الواحد خلال المدة الفاصلة عن موعد 20 تشرين الثاني المقبل؟.. هذا إذا حصلت الانتخابات!