بعد تأجيل مفعول انتخاب «رئيس قوي» على المستوى الحكومي إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة (أملاً في أن تكون له الحكومة التي تشبهه وتليق بقوته)، لم ينطبق هذا الأمر على «الميثاقية» لجهة التأجيل والتفعيل.
لا بأس من القول، منذ الآن، إن ما يجري التحضير له، انطلاقاً وبدءاً من «إعلان النوايا» بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، هو انبثاق ثنائية إضافية، مسيحية هذه المرة، «تمسح» من هم خارجها، من تيارات سياسية ومستقلين، عن خريطة الحياة السياسية اللبنانية. طبعاً، يتصل ذلك بطبيعة قانون الانتخابات العتيد، وبالتجاذبات السياسية القائمة والناشطة في لبنان والمنطقة. لكن، حتى لو تمكّن قطبا المعادلة الثنائية الجديدة من تنفيذ خطتهما، فدون تحقيق هدفهما باستعادة المبادرة على مستوى السلطة (أو حتى التكافؤ تحت شعار «الشراكة» و«المناصفة»، أي «الميثاقية» المزعومة) الكثير من العقبات والصعوبات. من تلك العقبات والصعوبات ما هو قائم ويتزايد الآن. منها، أيضاً، ما يمكن أن يُستحدث ويُضاف في المرحلة الحالية التي تتميز بتعاظم شهوة الحكم وجشع السلطة والتسلط وانعدام الضوابط الخاصة والعامة (ومن بينها، طبعاً، ضوابط الدستور والقانون والمؤسسات المحكومة بأصول وبأجهزة رقابة…). المقصود بذلك أن مرحلة جديدة من «الكباش» الحاد، المقترن بالتوتر وبالتعطيل، ستهيمن على الحياة السياسية اللبنانية. وهي مرحلة ستتسم، بالضرورة، بمزيد من الانقسام ومن التدخلات الخارجية. كما ستنزل إلى الساحة شعارات جديدة لجهة الأدوار والتوازنات. سيشمل ذلك التوزيع المعتمد للنفوذ والحصص والمواقع، بما في ذلك، وربما، بالدرجة الأولى، مسألة «المناصفة» ومدى «عدالتها» في وضع ديموغرافي (سكاني) متواصل الاختلال لمصلحة «الجناح» المسلم على حساب «الجناح» الآخر، المسيحي (رغم جهود ونجاحات باهرة لوزير الخارجية جبران باسيل في اكتشاف عائلة لبنانية، مسيحية، على المقلب الثاني من الكرة الأرضية، ترغب في استعادة جنسيتها اللبنانية: في وهج المرحلة «الميثاقية» الجديدة!).
حتى يمنَّ الله على لبنان بحكومة تليق بالعهد الجديد وتمثله بالشكل الذي يشتهيه، نواصل الآن، قطف ثمار «الميثاقية» التي أحرزت انتصارها الأول في إيصال العماد ميشال عون إلى سدة رئاسة الجمهورية. أول الغيث بعد تراجع السياسي لمصلحة الطائفي، عملية خلط أوراق أطاحت، بشكل شبه كامل، تكتلي 8 و14 آذار اللذين «خدما» حوالى دزينة من السنوات. بل إن الصراع الأساسي يدور الآن، بشأن بعض حقائب التشكيل الحكومي الراهن، بين أطراف كانوا في أحد التكتلين الآذاريين. هذا ينطبق على الصراع بين «التيار الوطني الحر» وتيار «المردة». كذلك ينطبق على أبناء «العائلة» الواحدة في حزبي «الكتائب» و«القوات اللبنانية». يشير ذلك، بين أمور أُخرى، إلى بعض ملامح «حكومة العهد» ما بعد الانتخابات، حيث يأمل، كما أسلفنا، تحالف «التيار الوطني الحر» و«القوات» بتشكيل ثنائية تحصر في هذين الفريقين، فحسب، التمثيل المسيحي على كامل الأراضي اللبنانية (والمنطقة العربية ضمناً).
يجب القول أيضاً، إن «الميثاقية» قد استنفرت متضررين كثراً وفاعلين ممن كانوا يستفيدون من غيابها. عنينا، بالدرجة الأولى خصوصاً، ثلاثي حركة «أمل» وحزب «المستقبل» والحزب «التقدمي الاشتراكي». يدور صراع ضار الآن لتبهيت انطلاقة العهد (وهو، بالمناسبة، ضعيف بكثرة ولكثرة ما بذل من وعود وتعهدات متناقضة ترهق حركته وستستمر تفعل ذلك لاحقاً)، ولمنع إحداث تحولات جوهرية في التوازنات القائمة والمكرسة، وخصوصاً، منذ الانسحاب السوري عام 2005 حتى الآن. هذه الصراعات تدور على المكشوف. لم يحدث تقريباً، منذ الاستقلال حتى اليوم، أن تقدمت الشعارات والمفردات الطائفية على كل ما عداها. بلغ الأمر، في بعض المحطات، في الأشهر الأخيرة، التهديد بالانقسام والطلاق. بعد انتخاب الرئيس عون، جنح فريقه السياسي والإعلامي إلى شيء من الخيال والوهم باستعادة مرحلة الامتيازات التي دشنت أُولى مراحل فشلها في اندلاع أزمة عام 1958، وبلغت ذروة تفاقمها وتأزمها في اندلاع حرب أهلية متفاعلة ومتداخلة مع أزمات المنطقة، بين عامي 1975 و1990.
لا توجد ضربات سياسية ممنوعة، الآن، في التوتر الذي يرافق محاولة تشكيل الحكومة العتيدة. ضاعت الطاسة ما بين المواقع والسلطات. رئيسا الجمهورية والمجلس طرفان مباشران في الاستحواذ على الحصص، وفي توزيعها. يحصل ذلك ضمن عملية خلط للصلاحيات وتضييع للحدود ما بين السلطات، إلى درجة خطيرة. وحده رئيس الحكومة المكلَّف يلتزم شيئاً من التواضع. هو يحاول السير بين الألغام والتعقيدات، أملاً في تشكيل حكومة بذل من أجل حلوله على رأسها الكثير من التقلبات وعانى الكثير من المشاكل والخسائر.
في مجرى هذا البازار السياسي والطائفي الكبير، يتزايد التنكر للدستور وللقوانين. هذان لم يعودا مرجعاً لأي أمر، ما خلا بعض المسائل الشكلية التي تحددها أيضاً نسبة القوى المحلية أو الإقليمية لا القواعد الدستورية والقانونية. الواقع أن انتهاك الدستور يبلغ ذروته الآن. وهو مرشح للمزيد من ذلك، حتماً، في المرحلة المقبلة. كيف لا، فالمؤقت في هذا الدستور قد أصبح هو الأساس، وخصوصاً لجهة التعامل مع بند إلغاء الطائفية السياسية، مثلاً، الذي هو (أي الإلغاء) حسب الدستور، «هدف وطني كبير» وضعت من أجل تأكيده وتنفيذه نصوص وآليات ومهل في دستور «الطائف» نفسه…
بهذا المعنى نحن نتقدم إلى… الخلف، بكل ما يعني ذلك من تفكك وتهافت وانقسامات وتعطيل… يضاعف من مخاطرها وضع إقليمي مشحون بالفتن والتآمر والتطرف والقتل والدمار. هذا يثبت، مرة جديدة، أن قوى المحاصصة، القديمة والجديدة، لا تحمل أي همّ أو وعد إصلاحي: لا اليوم ولا في المستقبل. وهي، على العكس، إنما تواصل تعطيلها للبنود الإصلاحية التي جرى إقرارها في «الطائف» وتكريسها في الدستور. وهي بنود سياسية وإدارية واقتصادية وتربوية.
لا يجوز، في المقابل، أن تستمر قوى الإصلاح، ذات الخلفيات الديموقراطية والوطنية، في ضعفها واستنكافها عن المبادرة والتوحد والنشاط… لا يجوز، خصوصاً، أن يتخلى بعض أطرافها عن واجبه في تأكيد استقلالية برنامجه وممارسته الداخليين، مستسهلاً الالتحاق بأطراف المحاصصة، طلباً لدور أو لموقع لن يكونا، بالنتيجة، إلا تابعين وهامشيين. لقد أطلق المزاج الشعبي إشارات بالغة الدلالة لجهة الشعور بوطأة الأزمات والاستعداد لمواجهة المسببين لها في نطاق نظام المحاصصة السيئ الذكر. افتقرت المواجهات، التي بادرت إلى تنظيمها جهات مدنية ونقابية، إلى الحاضنة السياسية والصيغ القيادية الفعّالة.
فلنقل إنها كانت «بروفة» أولى مهمة، وإنه ينبغي أن تكون لها تتمة.
* كاتب وسياسي لبناني