كيف حوّل نظام الأسد السوريين في لبنان إلى منجم للدولارات الطازجة؟
لم تكن جريمة قتل يوسف طوق في بشري على يد السوري محمد الخليل حدثاً عابراً، لأن تداعياتها المحلية والسياسية استمرت ولم تتوقف عند حدود الحدث. فداخل البلدة استمرت مجموعة من الملثمين في ترهيب السوريين، وصولاً إلى الاصطدام بالعائلات التي تُؤوي لديها عمالاً شرعيين، الأمر الذي أدى إلى توترات مع تلك العائلات، فضلاً عن قيام وفد من «حزب الله» بالقدوم إلى بشري للتعزية وإصدار وزارة خارجية النظام السوري بياناً غير مسبوق حول الحادث.
أدى استمرار الترهيب للسوريين في بشري من قبل مجموعات يرجح أنها من المجموعة الموالية لوليم طوق من العائلة، بنائبي بشري ستريدا جعجع وجوزاف اسحاق إلى إصدار بيان أكدا فيه أنّ «بعض ردود الفعل الفورية» التي وقعت بعد الجريمة، «لا تتلاءم مع شيم وقيم وأخلاقيات أبناء بشري»، لكننا آثرنا السكوت انطلاقاً من فداحة الحادث الأليم»، لكننا «لا نستطيع السكوت أبداً عما يزال يجري من أعمال وتحركات عشوائية خارجة عن كل قانون ونظام وتطال العمالة الأجنبية والسورية بشكل خاص في بشري».
كان لافتاً أن يرسل الأمين العام لـ«حزب الله» وفداً يمثله شخصياً للتعزية بالمغدور طوق على رأسه الشيخ رضا أحمد مسؤول حزب الله في الشمال، في خطوة تعكس الاهتمام الخاص الذي يوليه الحزب لما يجري في بشري، وتكشف أنّ الضحية طوق كان من المحسوبين على خط الممانعة الذي يمثله السيد وليم طوق في بشري، فضلاً عن أنّ القاتل كان أشبه بالمنسق لشؤون السوريين لجهة تنظيم العمالة وتسهيله ومساعدته على إجراء التسويات لهم مع النظام.
بينما تتجه بعض المعلومات إلى اعتبار ما جرى «جريمة شرف»، تتوقف مصادر أخرى عند العلاقة المتينة التي كانت تجمع القاتل والضحية، وأنّهما كانا يتشاركان الكثير من النشاطات الخاصة، وبالتالي فإنّ ما جرى لا يقتصر على خلافات شخصية، بل ينبغي البحث في الأبعاد العميقة للجريمة، خاصة بعد أن استدعت تدخل وزارة خارجية النظام السوري التي أعلنت في بيان غير مسبوق أنّ «الجمهورية العربية السورية تابعت باهتمام الحادث المؤسف في بلدة بشري (..) وتدعو القضاء المختص إلى القيام بدوره لإماطة اللثام عن هذه القضية ووضع حد للتحريض واللغة العنصرية واستغلال هذا الحادث الفردي».
وأضاف البيان إنّ «الجمهورية العربية السورية (..) تطالب الحكومة والجهات اللبنانية المعنية بمنع أي استغلال لهذه الحادثة للإساءة للاجئين السوريين والقيام بواجباتها بحماية المواطنين السوريين المتواجدين في لبنان».
يجري الحديث عن استعداد النظام السوري للمطالبة باستلام السوريين الموقوفين في لبنان وإتمام التحقيقات معهم ومحاكتمهم في سوريا، على أن يكون القاتل محمد الخليل من بين المشمولين بهذا الإجراء، مع ما يحمله هذا التوجه من أبعاد وأهمية لهذا الشخص في المنظومة السورية.
حمل بيان وزارة خارجية النظام مجموعة رسائل أهمها: اعتبار الحادث فردياً وتجاهل حقيقة امتلاك القاتل للسلاح، ودعا إلى ضرورة حماية السوريين في بشري تحديداً والإبقاء على وجودهم فيها وعدم إحداث أي تغيير في هذا التواجد، بما فيه الوجود غير الشرعي، مما يدفع إلى التساؤل عن سرّ هذا الاستنفار الحاصل للحفاظ على هؤلاء في نطاق بلدة بشري.
أبقى بيان الخارجية السورية على اللازمة التقليدية بدعوة السوريين للعودة إلى سوريا، بينما رأس النظام يشترط تأمين التمويل الدولي لإعادة الإعمار للقبول بمبدأ العودة، بدون أي تسوية سياسية.
في هذا الإطار، كشفت المتابعة لأوضاع اللاجئين السوريين أن سفارة نظام الأسد تقوم بعمليات جباية مالية منظمة من السوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية، حيث عيّنت جُباة معتمدين يجولون على أصحاب المؤسسات السوريين، وخاصة تلك التي تحمل اسم الـ«وان دولار»، إضافة إلى العمال المقيمين بطريقة شرعية، وكل من له دخل يمكن الوصول إليه، ويقبضون من هؤلاء عند نهاية كلّ شهر مبالغ مالية بالدولار الأميركي يجري تصريفها لهذه الغاية، تحت عنوان «دعم صمود الشعب والجيش السوري»، مما يوفر لخزينة النظام مئات آلاف الدولارات غير المنظورة، فكيف سيقبل بعودة السوريين من لبنان وقد تحوّلوا إلى منجم لا ينضب من الدولارات الطازجة؟
من هنا يجدر الوقوف عند الاجتماع الذي جمع سفير النظام السوري علي عبد الكريم علي بالمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، وتناوله لقضية اللجوء السوري، حيث يفترض أن تكون مسألة عودة اللاجئين حاضرة، خاصة مع الجهود التي بذلها ويبذلها الأمن العام لإعادتهم، ومن هنا تكمن أهمية اعتماد معيار موحد لتقييم وضع اللاجئين، وهو قدرتهم على دخول الأراضي السورية أو عدمها، وبالتالي اعتبارهم قادرين على التواجد في أراضٍ آمنية داخل وطنهم، أو امتناعهم عن الدخول لوجود مخاوف حقيقية لديهم من تعرضهم للاعتقال والاضطهاد تمنعهم من العودة.
يطرح متابعون أن تقوم الأمم المتحدة بخطوة عملية لتشجيع عودة اللاجئين السورين، تتمثل في تعهدها بنقل المساعدات المالية التي تقدِّمها في لبنان إلى الداخل السوري بالتوازي مع اتخاذ السلطات اللبنانية إجراءات مبنية على مراجعة سجلات دخول السوريين إلى بلدهم، وبالتالي فإنّ هذا التوجه سيكون كفيلاً بضمان عودة مئات آلاف السوريين ممن تسقط عنهم صفة اللجوء لدخولهم المتواصل وعودتهم الآمنة من وإلى سوريا، الأمر الذي يفتح ثغرة هامة في جدار أزمة اللجوء السوري في لبنان تلائم بين ضرورة العودة والحفاظ على المعايير الإنسانية.