ما حدث في «القرنة السوداء» ليس بسيطاً على الإطلاق: ضحيتان من عائلة واحدة من بشري، من آل طوق، الأولى برصاصة قنَّاص، والثانية برصاصة يُرجَّح أنها من الجيش اللبناني، كما دلّت التحقيقات الأولية. وجود قنَّاص، من مكان بعيد، يعني أنّ إطلاق النار لم يكن عفوياً، بل معداً له بإتقان، حتى مكان الإصابة يُظهِر أنّ القاتل محترف (من مسافة بعيدة، ودخلت رصاصة واحدة من الكتف الأيمن، وخرجت من الرئة اليسرى، وتسببت بالوفاة على الفور).
القتيل الثاني تُرجِّح المعلومات (التي تحتاج إلى تدقيق) أنه سقط برصاص الجيش، الإصابة «أرضيَّة» وليست من فوق، أي ليست من مروحية الجيش، وهي شبيهة بالأولى (دخلت من الظهر من الجهة اليمنى، وخرجت من الصدر من الجهة اليسرى).
القتيل الأول سقط صباح السبت، وبعد سقوطه تدخَّل الجيش، فأرسل تعزيزات من المغاوير، كما أرسل مروحية «مذخّرة» بالصواريخ والسلاح المتوسِّط، سقط القتيل الثاني على مسافة زمنية غير متقاربة مع القتيل الأول.
هذا في المعطيات الميدانية، ولكن ماذا عن السياسة و»حفلة» المزايدات والمغالطات؟
منذ لحظة وقوع الحادثة، لم تهدأ الروايات والسيناريوات لِما جرى، إشتعلت مواقع التواصل الإجتماعي والرسائل الصوتية والنصِّية، وكلها تدّعي قول «الحقيقة».
النزاع ليس ابن ساعته بل يعود لسنوات إلى الوراء، الحكومات المتعاقبة لم تُعرْه أهمية، لا بل تعاطت بلامبالاة معه، مثله مثل النزاع على أراضٍ في بلدة لاسا في قضاء جبيل، وفي بلدة القاع في البقاع، وفي بلدة القليعة في الجنوب. تقصير الحكومات المتعاقبة أتاح «منطق» أنْ يحاول كل فريق أن يأخذ «حقه بيده»، ما يوصل إلى شريعة الغاب.
خطورة ما جرى أنه يأتي في لحظة سياسية بالغة الدقة، فهو وقع في منطقة معظم السياسيين فيها معنيون بالإستحقاق الرئاسي: فالمرشح سليمان فرنجية، رئيس «تيار المردة»، ابن زغرتا، جارة بشري، والمرشح جهاد أزعور، ابن سير الضنيه، البلدة التي في قلب الصراع، وقائد الجيش المعنيّ بإطفاء الحريق، أحد أبرز مَن تُطرَح أسماؤهم لرئاسة الجمهورية، والدكتور سمير جعجع، ابن بشري، بلدة الضحيتين، هو صاحب الكتلة النيابية المسيحية الأكبر في مجلس النواب، بعدما تقلّص عدد كتلة «لبنان القوي».
إنطلاقاً من هذه الخريطة السياسية، لا يمكن فصل هذا «البازل» عما جرى وعن المنحى الذي ستتخذه المعالجات. لكن يبقى في نهاية المطاف، أنّ الحقيقة يجب أن تظهر، وبأسرع وقت ممكن، لئلا تكون الضحية الثالثة بعد هيثم ومالك طوق. فكلما تأخرت الحقيقة، تقدَّمت الفتنة، والشمال متخم بالفِتَن ولا يحتاج إلى المزيد منها، وبعد الحقيقة يفترض أن تأتي العدالة، لأنّ العدالة المتأخرة تفتح الأبواب للثأر، الذي بدأ يُطل برأسه.
المعادلة واضحة: الحقيقة والعدالة لوأد الفتنة والثأر.