الدم الأحمر والثلج الأبيض فوق القرنة السوداء
لا يمكن الفصل بين حادث القرنة السوداء في جرود بشرّي ومقتل هيثم ومالك طوق في أول تموز الحالي، وبين تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية ومحاولة فرض انتخاب مرشّح الثنائي الشيعي رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية. إستباحة الجرود والمناطق الداخلية بقوّة السلاح هي نتيجة طبيعية لمحاولة احتلال موقع رئاسة الجمهورية.
بعد تشييع شهيدَي بشرّي، وقف النائب وليم طوق أمام كنيسة السيدة ليعلن أنّ «بشرّي لم تتعوّد في تاريخها على الغدر، تماماً كما لم نتعوّد نحن أن نغدر أحداً. ودماء مالك وهيثم باتت الخط الأحمر لرسم حدود أرضنا التاريخية. لمن لا يعرفنا بعد نحن لا نفرِّط بدم شهدائنا، ولا نساوم على أرضنا وكرامة أهلنا. ولكلّ الذين يراهنون على صبرنا وحكمتنا نقول ما تغلَطوا. لأنّ دعوتنا إلى ضبط النفس التزاماً بقِيَمنا لا تعني التساهل أو التفريط بدم الشهيدين. قرارنا واضح. لن نقبل بأقلّ من توقيف الذين غدروا بهيثم ومالك وكل الذين حرّضوا على هذه الجريمة. ما حدا يجرِّبنا في المواقف المبدئية. كنّا وسنبقى حصان الدفاع عن هذه المنطقة وتاريخها ومبادئنا وحريتنا وكرامتنا». هذا الكلام للنائب وليم طوق لا ينسجم مع موقفه من انتخابات رئاسة الجمهورية. فهل يتبدّل هذا الموقف بعد حادثة القرنة السوداء؟
هل يتبدّل موقف طوق وفرنجية؟
لا يمكن الحديث عن هذا الحادث وكأنّه خارج السياق العام للأزمة التي يعانيها لبنان جرّاء تفكك الدولة ومحاولة فرض أمر واقع على الأرض. لا يمكن أن يتحدّث طوق عن «الدفاع عن منطقتنا ومبادئنا وحريتنا وتاريخنا» بينما ينسحب من جلسات انتخاب رئيس الجمهورية لتعطيل النصاب. بالميزان نفسه لا يمكن أن يستمرّ رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية في المسار نفسه التزاماً بما يسمّيه «الخطّ» الذي ينتمي إليه، ولا يمكن أن يبادر إلى التعزية واستنكار الجريمة بينما يستمرّ في أن يكون مرشّح حلف الممانعة. جرود بشرّي حيث حصلت جريمة مقتل مالك وهيثم طوق، لا تنفصل عن جرود أهدن وزغرتا. وإذا كان العزاء واجباً فإنّه من الواجب أيضاً أخذ العبرة ممّا حصل وإعادة النظر بالطريقة التي تتم فيها مقاربة استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية. استباحة قصر بعبدا من خلال فرض التعطيل هي التي مهّدت وتمهّد الطريق لاستباحة الحدود الداخلية بين المناطق والطوائف بقوة السلاح لا بقوة القانون.
عندما تكون هناك استراتيجية ثابتة تهدف إلى احتلال الموقع الدستوري الأول في الجمهورية الذي يشغله ماروني، بحكم توزيع الرئاسات، لا يعود هناك موانع من احتلال سائر المواقع. هذا الزحف يستهدف حاكمية مصرف لبنان ثم قيادة الجيش. صحيح أنّه من الطبيعي أن ينادي الجميع بالإحتكام إلى التحقيق الذي يجريه الجيش اللبناني عبر مديرية المخابرات، وإلى القضاء لكشف وقائع الجريمة، ولكن هذا الأمر لا يكفي وقد لا يوصل إلى نتيجة، ولا يمكن أن يضع حدّاً لتجاوز القانون.
لا يمكن تحميل الجيش اللبناني كل أعباء سقوط الدولة ثم تحميله مسؤوليات التقصير. ولا يمكن تحميل القضاء مسؤولية المحاكمة والتحكيم لأنّ هذا القضاء بات يشبه الدولة العاجزة بكل أجهزتها عن أن تكون دولة ومؤسسات. فرئاسة مجلس القضاء الأعلى هي من بين المواقع المستهدفة بالإحتلال. والرهان على القضاء بحدّ ذاته سقط مع إسقاط موقع المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، ومع ادعاء مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات عليه، ومع إطلاق سراح الموقوفين في القضية، ومع تحويل القضاء إلى جزر طائفية ومذهبية. هذا الواقع الذي بات يعيشه القضاء اللبناني بات يفرض نفسه على أي تحقيق يمكن أن يحصل انطلاقاً من اسم القاضي الذي يتولّاه والجهة التي تمون عليه. وهذا ما ينطبق على قضية تحميل القضاء مسؤولية البتّ بالحدود العقارية في المناطق المتنازع عليها، وإمكانية التشكيك لاحقاً بأي قرار يمكن أن يصدر، ورفضه وتحويله إلى فائض من أسباب الصراع على الأرض وعلى الحكم وعلى رئاسة الجمهورية.
من سيدة النجاة في الزوق إلى بشرّي
مشهد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في كنيسة السيدة في بشرّي مترئّساً مراسم تشييع مالك وهيثم طوق، أعاد إلى الأذهان مشهد ترؤس البطريرك مار نصرالله بطرس صفير مراسم تشييع شهداء تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل في 28 شباط 1994. وقتها تحدّث صفير عن صليب المسيحية في هذا الشرق، وعن خيار الإستشهاد في هذه الجبال، وقال «إذا خُيِّرنا بين العيش المشترك والحرية سنختار الحرية». لا تقلّ مسألة ما حصل في جرود بشرّي خطورة عمّا حصل بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة. ثمّة محاولة جديدة ومستمرة لفرض أمر واقع على اللبنانيين والمسيحيين. الذين حرّضوا وما زالوا يحرّضون على موضوع حقوق الملكية في القرنة السوداء معروفون ومعلنون وأهدافهم مكشوفة. وهم يحاولون أن يخلقوا أسباباً للخلاف بين منطقتي بشرّي والضنية، وسحب هذا الخلاف على المسيحيين والسنّة بعد التلاحم الذي حصل قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبعده، على رغم أنّ هذا الأمر ليس خافياً وعلى رغم أنّ القيادات السنية مدركة له.
ما حصل في القرنة السوداء هو استكمال لمسار يبدأ من استباحة الأراضي والمشاعات العامة والأملاك الخاصة من رميش في الجنوب إلى أقصى الشمال مروراً بكنيسة لاسا وأملاك البطريركة المارونية في جرود جبيل، امتداداً إلى تنورين والعاقورة التي تجرى محاولات السيطرة عليها بقوة سلاح «حزب الله». صحيح أنّ الخلافات حول الحدود العقارية موجودة في كل المناطق وحتى بين البلدات المتجانسة طائفياً أو مذهبياً، بين الحازمية وبعبدا مثلاً، وبين فنيدق وعكار العتيقة حيث سقط قتيل بالرصاص قبل ايام من مقتل هيثم ومالك طوق. ولكن ما يحصل في الجرود له طابع مختلف تماماً يتعلّق بتركيبة البلد الداخلية وبمحاولة الإستفادة من الفراغ في الحكم ومن استضعاف المسيحيين لضرب وحدة القوى السيادية وتكريس الأمر الواقع واستعادة ما يعتبره البعض حقوقاً تاريخية لإعادة رسم الخرائط والحدود الداخلية بين المناطق والأقضية من دون الأخذ بالإعتبار لا السجلات ولا الوثائق ولا الحقوق.
العبث بالسلم الأهلي
ما حصل في القرنة السوداء لم يكن ابن ساعته. ثمّة دعوات سابقة، معروفة المصادر، إلى تحديد هوية الأرض الدينية وإلى أداء صلاة الجماعة فيها، وإلى اعتبارها بمثابة قضية إسلامية أولاً. وعلى رغم محاولات استيعاب هذه الدعوات من خلال البحث عن حلول لمسألة المياه والري، إلا أن العبث بالسلم الداخلي يتخطّى هذه المحاولات لأهداف عدة منها:
– خلق خلاف مسيحي سني من خلال إثارة مسألة حقوق الملكية العقارية بعيداً عن الوثائق والإيحاء بأنّ المسيحيين يقطعون المياه عن مسلمي الضنية بهدف إسقاط كل المساحات المشتركة بين القوى المسيحية والسنية السيادية لمصلحة التابعين لـ»حزب الله».
– الإعتقاد بأنّ «القوات اللبنانية» يمكن أن تقوم بردة فعل لاتهامها بالإخلال بالأمن وبالسعي إلى الأمن الذاتي وربما لخلق إشكال بينها وبين الجيش على الأرض. الأمر الذي حصل عكسه.
– تحميل قيادة الجيش مسؤولية التقصير في أنّها لم تحل دون حصول الإشكال ولم تطبّق بقوة على الأرض قرار الإبتعاد عن موقع القرنة السوداء، ورعاية الحل السابق الذي تمّ التوصل إليه، ومنع المحاولات الفردية لتخطّيه والمحاولات المقابلة لمنعها. وهذا الأمر يرتبط بمسألة التشكيك بدور الجيش وبإمكان تزكية قائده كمرشح نهائي لرئاسة الجمهورية.
قلب السحر على الساحر
ولكن من خلال التحقيق الجدّي وإعلان نتائجه وحزم قيادة الجيش وفرض الحل المائي على الأرض وقراءة الأهداف التي يريد مثيرو هذه المشاكل الوصول إليها، يمكن أن تكون هناك نتائج معاكسة:
– يخرج الجيش من هذه المشكلة كأنّه ضامن الأمن والإستقرار. كما حصل في قضايا مماثلة من حادث شويّا إلى حوادث خلده والطيونة. وبالتالي يحوِّل محاولة إغراقه وتوريطه إلى نقطة قوة لتثبيت دوره الإنقاذي بينما تنهار كل مقومات الدولة.
– يخرج تحالف وليم طوق وسليمان فرنجية وفريد الخازن من محور الممانعة حتى لا يكونوا غطاء لعملية استضعاف الوجود المسيحي في الدولة وعلى الأرض.
– تخلّي البطريركة المارونية عن الحياد في موضوع الفراغ في قصر بعبدا والإتجاه إلى تسمية المعطّلين وتحميلهم المسؤولية والدعوة المباشرة إلى تحرير الرئاسة من أسر حزب الله وفريق الممانعة. إذ لا يجوز أن يدعو البطريرك الراعي الرئيس ميشال عون إلى تحرير قرار الشرعية وهو رئيس للجمهورية، وأن تكون بكركي مدركة لأخطار ما يحصل على صعيد مصادرة القرار المسيحي والأراضي، وأن لا تكون هناك خطة عملية للخروج من الفراغ وتثبيت الحضور على الأرض وفي الواقع. وعلى الأقل العمل من أجل إقناع فرنجية بسحب ترشيحه.
– توسيع دائرة التلاقي المسيحي السني حول القضايا الوطنية وإسقاط محاولات دقّ الأسافين بين الطرفين.
– أن يعاد النظر في مسألة انتخاب رئيس للجمهورية والإتجاه نحو فرض عقد جلسة انتخاب بكل الوسائل الممكنة وعدم الإكتفاء بالمشاركة في المسار الذي يكتفي رئيس مجلس النواب بتحديده وبالخروج منه.
لقد برهنت القوى الفاعلة في بشري والضنية وفي البطريركية المارونية ودار الفتوى أنّها واعية لمخاطر ما حصل من خلال التأكيد على أن السلم الأهلي خيار نهائي وأن لا إنجرار إلى أي ردود فعل. ومن الطبيعي أن يكون هناك اقتناع أن استباحة موقع رئاسة الحكومة سبقت استباحة موقع رئاسة الجمهورية وأن المطلوب أن يبدأ التحرير من فوق إلى تحت.