أسوأ الحروب تلك التي لا ينتصر فيها أحد. الحروب الأهلية، الطائفية أو المذهبية أو الإثنية أو الجهوية، يستحيل فيها أن تنتهي بهزيمة مبرمة. التسوية، هي خاتمة الحروب الأهلية. تسوية تتولى تأهيلها قوى خارجية، ذات نفوذ على الأطراف المتنازعة، وذات مصالح أيضاً. غالباً ما تكون التسوية، أسوأ الممكن، إذا قورنت بأوضاع ما قبل الفتنة الأهلية، ترحَّم الناس على ما كانوا عليه وعلى ما كانوا يشكون منه ويرفضونه… التسوية ضرورية لإنهاء الاقتتال العبثي. تلك فضيلتها. عدا ذلك، فإنها بحاجة إلى رعاية خارجية متعددة الأطراف.
لبنان، خرج من الإمارة إلى نظام القائمقاميتين بعد فتنة وجيزة. سقط النظام المجترح أوروبياً، على أبواب «فتنة الستين». ثم انتهت الفتنة، ببروتوكول الدول الست الكبرى آنذاك. في التسوية خسر اللبنانيون سلطة كانت منهم. استُبدلت بحاكم مسيحي غير لبناني، ليحكم باسم السلطان، لبنان المتصرفية، مع الأخذ بعين الاعتبار ممثلي القناصل في السياسة اللبنانية.
خسارة اللبنانيين كانت فادحة: أجنبي يتحكم بلبنان، قتل وثأر وتشريد وتهجير، واستعار الشعور الطائفي الذي ترك بصمته على طبيعة «لبنان الكبير»، المتصل بمحيطه جغرافياً، والمنفصل عنه سياسياً.
بعد حرب الخمسة عشر عاماً، تبين أن أحداً لم يربح. كانت الأطراف المتنازعة قد استنفدت الحلفاء، وتبادل الأصدقاء، واستهلكت القوى الخارجية، حتى أصيب الجميع بالإعياء واللاجدوى. لم تعد حرباً بأهداف، بل حرب الجميع ضد الجميع. شيء من العبث والجنون. القضايا والأهداف، لدى الأطراف كلها، قتلت ولم يعد أحد يتذكرها. صار المطلوب تسوية تنهي الحرب أولاً. وهكذا كان. ولم يربح أحد.
من يظن أنه رابح، أو أنه ورث «المارونية السياسية» مخطئ ومشتبه. «السنية السياسية» التي اتهمت بالوراثة، فشلت. كانت مضطرة أن تحكم بلا سلطة. عاشت تحت الوصاية السورية، والرعاية الأميركية ـ السعودية. بعد «11 أيلول» اهتز حلف الوصاية والرعاية. بعد حرب أميركا على العراق، حدث الانقسام بين سوريا وأميركا. قبل وبعد اغتيال الرئيس الحريري، تفردت أميركا بالقرار اللبناني. نازعت سوريا وحلفاءها في لبنان، وخاضت معركة «ترحيلها» عن البلد. وانقسم اللبنانيون: لا طائف يجمعهم. لا دستور يوحدهم. لا خارج ينفق عليهم ومن أجلهم، فاحتل الفراغ المشهد، وذات قرارين حكوميين، كاد اللبنانيون يمتحنون أنفسهم بفتنة مع وقف التنفيذ.
لم يرث السنة المارونية، ولا ورثت الشيعية السياسية أحداً. الشيعية السياسية ذات ثقل شعبي بلا مردود سلطوي يساوي حجمها. أفدح ما بلغته الصيغة، حلف الأقليات: سني ـ مسيحي وشيعي مسيحي. الدروز في الوسط الحائر والمحيِّر معاً. والبؤس، كل البؤس، تلك النهاية الرثة لـ «اتفاق الطائف» الذي اقتصر تنفيذه في البداية على وقف الاقتتال (لقد توقف) وسحب السلاح (ولقد سحب) وتعديل الصلاحيات (فاعتلّت السلطة).
لم يعد «اتفاق الطائف» ذا جدوى. كل هذا الاتفاق، الذي بات بلا ضمانة خارجية رادعة وملزمة، بات غير قادر على فتح أبواب المجلس النيابي لانتخاب رئيس وتسيير أعمال حكومة وإجراء انتخابات نيابية، تأجلت مرتين، لفقدان النصاب الإقليمي.
«اتفاق الطائف» هو «اتفاق الخاسرين». ما خسره الموارنة لم يكسبه الآخرون. البلد كله بانتظار تسوية خارجية حوله، أو بانتظار التسوية الكبرى في الإقليم.
انتهت حرب لبنان منذ ربع قرن. ولبنان، أنفق ربع قرن من عمره، وهو يعاني صداع التسوية، التي تحتاج إلى تسويات كي… ثم إلى تسويات أخرى، حتى «هكذا دواليك». لبنان الحرب الأهلية، خرج من الميدان العسكري، ليعيش حرباً أهلية سياسية، مع وقف التنفيذ.
لا شذوذ على قاعدة الحرب الأهلية تنتهي بتسوية. الحروب الحاسمة تراجعت. حروب الجيوش في مواجهة جيوش معادية باتت نادرة. آخرها، كانت حرب أميركا على العراق. بعدها، دخل العالم في الحروب غير المتوازنة: جيوش تقاتل عصابات مقاومة، مدربة، مسلحة، معقدنة، متحركة، وأحياناً انتحارية… في سوريا اليوم فائض من العنف الذي لا يرتوي… وفي سوريا سعي دولي حثيث لإيجاد تسوية. لن يغلب أحد أحداً.
في الخامس والعشرين من كانون الثاني القادم، موعد لعقد «جنيف 3». فلنفترض أن القطار السلمي سينطلق من طاولة جنيف. لنفترض أن اتفاقاً حصل على لوائح المشاركين في الحوار، فكيف ستكون خارطة الطريق إلى التسوية الممكنة.
من المرجح، أن تكون لإيران حصة كبيرة في سوريا، من خلال رعايتها لطرف في التسوية. ومن المرجح أن تكون للسعودية حصة وازنة، من خلال رعايتها وضمانتها لفريق سوري، ومن المؤكد أن يكون لتركيا حصة نافذة من خلال رعايتها لأفرقاء، ومن خلال عدائها للأكراد. ستطلب ضمانات لسلامتها «القومية». وسيكون لروسيا اليد الرعائية الطويلة بالاشتراك مع أميركا وأوروبا… وسيضمن كل هؤلاء نجاح التسوية، وإذا امتدت الخارطة لإيجاد تسويتين في العراق وفي اليمن، فستكونان وفق النموذج السوري المزمع تحقيقه، وهو لن يكون غير نسخة مرسَّخة للتسوية اللبنانية البائسة.
العالم سيقول: «كونوا مثل لبنان». واللبنانيون، يشكون ويئنون مما آلت إليه التسوية…
المؤكد، أن دولاً، بهذه الصيغة التسووية، ستفقد قرارها الحر، وستكون سياستها الخارجية متناسبة مع القوى الراعية والضامنة. وفي هذه الأحوال، ستكون إسرائيل، مجرد جار غير ودي، والعداء، لن يكون من اختصاص دول كسوريا والعراق في المستقبل.
إسرائيل ربحت كل هذه الحروب في المنطقة من دون أن تخوضها. فبئس التسوية وبئس المصير.