كان الاتحاد السوفياتي قوة عظمى يدور في فلكها نصف أوروبا.. ويتطلع نصف آسيا إلى عضوية ذلك الترف! ونصف أميركا اللاتينية وبعض أفريقيا يشتعل بثورات جلّ طموح قادتها أن يصيروا جزءاً من «المعسكر الاشتراكي» الذاهب إلى معس الامبريالية وطحن أدواتها المحلية!
وكانت كوبا درّة التاج. وسوريا أحد مخالب الدب. فيما كوريا الشمالية تنمو برعاية كيم ايل سونغ وتستمتع بحماية موسكو تارة وبكين تارة أخرى.
«إمبراطورية العمال والفلاحين» تلك أنهاها الخواء الذاتي وغريزة الاستهلاك العزيزة.. أمكنها بناء أسلحة دمار شامل كافية لموازنة ما يملكه المعسكر الغربي، ولتدمير الكرة الأرضية وكل حياة عليها مئة مرة ومرّة. لكن الهزيمة جاءتها من أبسط «الأسلحة» وأكثرها خفّة: أسقط بنطلون «الجينز» الصواريخ النووية العابرة للقارات! وساهمت «الكوكاكولا» في تحطيم دروع «حلف وارسو»! وتكفل الخيال الهوليودي في إرجاع كارل ماركس إلى مكانه الطبيعي فوق رفوف المكتبات العامة! وبطحت غريزة التملك الفردي كل الخطط الخمسية والعشرية لخدمة «الشعوب السعيدة». وطغى أثير إذاعة «صوت أميركا» على هدير جيوش العمال والفلاحين في احتفالات «ثورة أكتوبر المجيدة» في الساحة الموسكوبية الحمراء! وتبيّن في الخلاصة أن قماش الحرية الناعم أقوى من فولاذ «الحزب القائد والرائد» وأن ايف سان لوران في باريس أكثر رشاقة في حكم الذوق البشري العام من حفلات الدم التي دأب جوزيف ستالين على إقامتها كلما عنَّ على باله المريض خيال «مؤامرة» يدبرها الرفاق الأعزاء في الكرملين!
في بعض «الأسلحة» التي حطمت الامبراطورية الحمراء شيء من الابتذال الذي توجّس منه انطوان تشيخوف كثيراً.. لكن في أساس تلك الأدوات كمِن العجز الخطير (والقاتل في النتيجة) عن مقاربة بديهيات «أرواح» البشر قبل مادياتهم المنظورة! وفطرتهم قبل عقولهم! ومخاوفهم قبل شجاعتهم، وفردياتهم قبل جموعهم! أنكرت تلك التوليفات، الماورائيات لكنها أنتجت الكثير من «الآلهة»! أخذت على النص الديني تركيباته التوجيهية العامة والشاملة وربطها بالسماء من أجل التحكّم بالأرض، لكنها أنتجت في المقابل أطراً سلطوية شمولية ادعت تقديم جواب على كل سؤال وتحكمت بالناس من لحظة ولادتهم إلى يوم موتهم! قدمت الوعاء النظري والعملي الكامل لكل طاغية في الزمن الحديث ووضعت العنف في مرتبة القداسة (الطبقية!) قبل أن يصير هذا هو البديل الوحيد عن كل نصوصها وأدبياتها وثقافتها وتنظيماتها وأحزابها.
خافت روزا لوكسمبورغ من ديكتاتورية اختزالية تستبدل «الأمين العام» بـ«القيصر» والحزب بعموم الناس، لكنها لم تذهب بجموح خيالها إلى توقع أن «يتطوّر» الاختزال المتدرج ذاك، إلى حدٍّ أن لا يجد «زعيم ثوري تاريخي» مثل فيديل كاسترو، شخصاً آخر في حزبه «العظيم» لتسليمه الأمانة غير شقيقه راؤول!
الطفل المعجزة في كوريا الشمالية مثال بعيد عن ذلك التوريث «التقدمي»! والمعجزة الموازية في سوريا مثال قريب وإن عزّ نظيره وفرادته. وما بينهما يترك «الرفيق فيديل» كوبا في عهدة شقيقه.. والثلاثة عصبة واحدة ومنارات يهتدي بها التائهون على الطريق إلى «السعادة والرخاء والتقدم» وكسر شوكة «الامبريالية المتوحشة!!». ودمتم!
(هذا النص مُستعاد)