أعرب أكبر سياسي مخضرم عن أسفه الشديد لأن يرى لبنان غير ما كان عليه في الماضي، وكأن زمن رجال الدولة الكبار والعمالقة قد ولّى منذ تحولت معركة انتخاب رئيس للجمهورية معركة نصاب وهو ما لم يحصل ولا مرة في لبنان. ومعركة النصاب لانتخاب رئيس للجمهورية قد تتحول معركة إسقاط الجمهورية ومعها معركة العبور الى الدولة التي تتحول هي أيضاً عبوراً الى الفراغ الشامل.
يقول السياسي إياه إن لبنان عاش ما يقارب الـ15 عاماً في ظل دولة الانتداب الفرنسي، وعاش ما يقارب الثلاثين عاماً في ظل دولة الاستقلال، وعاش ما يقارب الـ15 عاماً في ظل حكم الميليشيات، وعاش بعدها ما يقارب الثلاثين عاماً في ظل دولة الوصاية السورية. وعندما حاول العبور الى الدولة القوية بعد انتهاء هذه الوصاية، أي الدولة القادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها، فلا تكون دولة سواها ولا سلاح غير سلاحها، انقسم اللبنانيون بين من يريد قيام هذه الدولة لكن قيامها يتطلب انهاء وجود كل سلاح خارجها سواء كان مع لبنانيين أو غير لبنانيين، ولأن اتفاق الطائف نص على ذلك، إلا أن الوصاية السورية لغاية في نفسها لم تنفذ ذلك كي لا تقوم في لبنان دولة تستطيع أن تستغني عن وصايتها، ومن لا يريد قيام هذه الدولة إلا بشرط الابقاء على السلاح خارجها سواء في أيدي الفصائل الفلسطينية بذريعة الدفاع عن المخيمات ضد أي اعتداء اسرائيلي محتمل، أو في أيدي “حزب الله” وهو سلاح مقاومة ضد اسرائيل ولأن الدولة غير قادرة وحدها على ذلك. ولا يزال هذا الانقسام قائماً بين اللبنانيين منذ انسحاب كل القوات السورية من لبنان الى يومنا هذا، فكانت حرب تموز في اسرائيل من دون علم الدولة وبقرار من “حزب الله” تلقاه من ايران، وقد تحمل كل اللبنانيين عواقب تلك الحرب. ثم كان تدخل “حزب الله” في الحرب السورية دعماً لنظام الرئيس بشار الأسد من دون علم الدولة اللبنانية أيضاً، وعلى رغم وجود المعادلة الثلاثية “الذهبية”: “الجيش والشعب والمقاومة”، فلا الجيش ولا الشعب، وهما جزء أساسي ومهم من هذه المعادلة، أخذا علماً مسبقاً بقرار تدخل الحزب في الحرب السورية، بل علما به بعد تنفيذه…
وحاول الرئيس السابق ميشال سليمان جعل أقطاب الحوار يلتزمون تنفيذ القرارات التي صدرت عنهم علَّ ذلك يكون بداية العبور الى الدولة، لكن سوريا التي كان لا يزال لها نفوذ على بعض الزعماء والاحزاب في لبنان أبت تنفيذ قرارات الحوار ولا سيما منها ترسيم الحدود بين البلدين كي يتمكن لبنان من استعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا من اسرائيل، ولا إزالة المواقع العسكرية للفلسطينيين خارج المخيمات تمهيدا لضبط السلاح داخلها. وحاول الرئيس سليمان أيضاً ضبط استخدام سلاح “حزب الله” بعدما ارتد الى الداخل في 7 أيار الشهير، بوضع استراتيجية دفاعية لهذه الغاية، لكن “حزب الله” رفض البحث في أي مشروع من المشاريع بما فيها المشروع العملي الذي اقترحه الرئيس سليمان لأن الحزب يريد أن يبقى حراً في استخدام سلاحه سواء داخل لبنان أو خارجه من دون العودة الى الدولة اللبنانية. كما حاول الرئيس السابق تحييد لبنان عن صراعات المحاور بموافقة أقطاب الحوار وبالاجماع على ما عرف بـ”اعلان بعبدا”، وشُكلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي عرفت بـ”حكومة حزب الله”، وقد ضمّنت بيانها الوزاري الالتزام بسياسة “النأي بالنفس” ترجمة لمضمون “اعلان بعبدا”، لكن ايران طلبت من الحزب الخروج على هذه السياسة بارسال مقاتلين منه الى سوريا ليقاتلوا الى جانب النظام فيها، الذي كان مهدداً بالسقوط، وهو ما جعل ايران تطلب من الحزب التدخل، وقرارها عند الحزب أهم من أي قرار آخر. فكانت النتيجة أن استقالت حكومة ميقاتي كونها لم تستطع تحمل عواقب تدخل الحزب في الحرب السورية لتشكل بعدها حكومة الرئيس تمام سلام بتسوية طال وقت التوصل اليها، فلم تكن في الواقع حكومة “المصلحة الوطنية” كما سمّاها رئيسها، بل حكومة مصلحة كل وزير، وحكومة العمل على تسوية كل خلاف بين اعضائها، بحيث بلغت سياسة الاحقاد والنكايات والكيدية في ما بينهم ما بلغته بين رجلين في إحدى القرى قبل عقود، فأمر الحاكم بشنقهما لترتاح القرية منهما. وعندما سئل أحدهما ماذا يريد قبل شنقه، أجاب: أريد أن أرى أمي. وسئل الآخر: وأنت ماذا تريد؟ فأجاب: أن لا أرى أمي… فكيف يمكن أن تقوم دولة بمثل هذه السياسة، وان يبلغ الصراع على رئاسة الجمهورية حدّ ذهاب الفراغ الشامل بالجمهورية ذاتها، ولا جمهور يتحرك لأسباب حزبية وطائفية؟!