IMLebanon

لولا اللهو…

يوم تشييع صباح ثبت انها أقوى من المجتمع ومن الطبقة السياسية فيه. أمرت ان يتحول مأتمها إلى مهرجان، نُفذت الأوامر، كان موتها امتداداً للحياة، كما كان غناؤها امتداداً لكلام. أقبلت على الحياة من دون تكلف أو تصنّع. اللهو صار حرفة في مجتمع ما تعود إلا على الحزن والتعقيد، كان اتصالها بالناس، فأحبوها. اعتبرت ان تلك المحبة أغلى من كل شيء، فأعطت من كل شيء لكل إنسان، فاض عطاؤها على الجميع. الأهم من المال ان روحها كانت تكفي الجميع وتفيض عنهم. سرها سهولة الحياة والتعاطي، سرها الفرح الدائم والعطاء من دون حساب. اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب. تعيش اليوم الذي أنت فيه من دون اكتراث للغد، لا تكترث للقلق. تعيش الدنيا، لا تكترث للآخرة. ربما كانت تعلم ان الناس يذهبون إلى العالم الآخر حاملين أفعالهم وانجازاتهم، وان حكم الناس على الأرض يقرر حكم الأرض. عرفت ان الميزان سوف يكون طابشاً لصالح أفعالها الطيبة.

سبرت غور المجتمع، أخرجت ما كان مستبطناً. إذا كان البعض قد أشار إلى حياتها الشخصية فانها كشفت شخصية المجتمع واقتلعتها من شلوشها. أخرجت للعلن ما كان المجتمع يخفيه. لم يخف الناس منها لذلك، بل أحبوها. تُعلمنا أدياننا ان الإنسان ولد من الخطيئة فعوقب بالهبوط إلى الأرض. وهو منذ ذلك الحين يسعى لجنة أخرى بغض النظر عن يوم الحساب. جنة على الأرض؟ هذا مستحيل. جعلته ممكناً. الفرح يصنع الجنة. الكرم والعطاء والمروءة والشهامة تكون مضمونها. ما تراجعت يوما عن محاولة طوبى الفلاسفة. حققت ذلك بفرديتها المتماسكة في عباب مجتمع يموج بالتمزق والطائفية وانحلال السياسة وانهيار الأمن وتفاقم جرائم الاقتصاد. جعلت اللبنانيين، من دون تصنع أو تكلف، قادرين على تحمل أرزاء الحياة وأعباء نظام يسير بهم نحو الهاوية.. بفرديتها المتماسكة جمعت اللبنانيين بما ندر ان يجمعهم أحد من قبل. عسى ان يتعلم منها من يأتي بعدها. فرديتها متعددة في ذاتها؛ كانت أقوى من المجتمع المشلع. أمرت ان يكون يوم مماتها مهرجاناً، فكان لها ذلك. أطاعها الجميع، فيما لم يطيعوا مجتمعين أحداً غيرها. جمعتهم في الحياة والممات. أرادت الموت امتداداً للحياة، فكان لها ذلك.

في مقابل ذلك طبقة سياسية اكتشفت فجأة ما كان عليها اكتشافه منذ زمن طويل؛ اكتشفت ان الغذاء الفاسد يمزق أحشاءنا، وان المستشفيات تتلاعب بصحتنا وحياتنا، وان البيروقراطية المالية تزور سندات التمليك لسرقة أملاكنا. طبقة اكتشفت ان باطنها نظام للسرقة والتراكم البدائي (بالتشليح والتزوير). أنفقت صباح من دون حساب، هم سرقوا من دون حساب. أنفقت من مالها. راكموا من أموال الناس. عطاؤها الأهم انها رفعت بؤس الحياة اليومية إلى مستوى غنائها. جعلت من اللهو قدسية تغنيهم عن بقية الأقداس. وسعت مجال المباح على حساب الحلال والحرام.

بعضنا يرتب الأفعال بين حرام ومكروه ومستباح ومستحب وحلال. وسعت مجال الحياة بواسطة المستباح. دمرت الاستقطاب بين الحلال والحرام، صار المجتمع أكثر تصالحاً مع نفسه، برغم مآسي الانقسام الطائفي والعنصري. وذلك سر الديمومة في وجه عوامل الفناء؛ فناء المجتمع والدولة. كشفت المستور. زال الخوف من الخطيئة الأصلية، صار المستقبل رهناً بإرادة الناس الذين تريد الطبقة السياسية ردهم إليها من أجل شل قدراتهم. رفعت راية الحق بالتسلية واللهو. لولا اللهو لكان أمرنا في لبنان أكثر بؤساً بكثير.

لولا اللهو لكان لبنان مقبرة لأبنائه؛ لكان مقبرة حفروها بأيديهم. اللهو هو ما تفعله في أوقات الفراغ، في أوقات غير العمل الضروري. اللهو هو ما لا تفعله تحت عبء الضرورة، هو ما تفعله باختيارك، لا ما يختاره لك الآخرون. عندما تبيع قوة عملك لقاء أجر، فإنك تبيع زمانك كي يتمتع به دافعو الأجر. جعلت صباح من اللهو سمة عامة لحياة اللبنانيين، فكان منهم عدد من أبدع، بنسبة كبيرة تفوق نسبة عدد السكان بالنسبة لبلدان أخرى. عممت اللهو، جعلته حقاً وطريقة عيش يومية. لولا اللهو لما استطاع اللبنانيون مقاومة ارزاء الدهر وتحمل أعباء نظام الموت بالاماتة.

طريقة العيش تلك ما ساهم أحد فيها قدر ما ساهمت صباح. فعلتها باللهو الذي لولاه لما كنا قادرين على تحمل ما لا يحتمل.

إن من ساءه الزمان بأمر

لأحق امرئ بأن يتسلى

يقال في الطب ان القلق آفة تسبب أمراضاً كثيرة، بعضها قاتل. في مقابل القلق جعلت صباح اللهو دواء للبنانيين وغيرهم من العرب.