شاع في الحرب الأهليّة أن يأتي مسلّح، ومعه رفاقه، إلى أحد المستشفيات، في بيروت مثلاً، طالباً «شفاء» والدته أو والده أو ابنه أو أيّ عزيز. يضع مسدّسه في رأس الطبيب، وواثقاً: «شوف شغلك». كان يحصل على ما يُريد. كان ذلك يُجدي. كان ذاك «النظام» يَعمل. لم تكن إدارة المستشفى تُطالبه بالمال قبل بدء العلاج… ولا بعده. كم تمنّيت لو تعود الحرب الأهليّة، ولو لليلة واحدة، ليلة «النكبة».
مساءً، شعرَت أمّي، السبعينيّة، بخدر في رجلها اليسرى، سرى نحو الأعلى، ثم في يدها اليسرى، وهكذا. أخبرَتها جارتها أنّ هذه عوارض لا بدّ لها مِن طبيب الآن. اتصلت بي، طلبت، باستحياء، أن آتي إليها إن لم أكن مشغولاً. هرعت إليها. أخبرتني. أعرف أنّ هذه عوارض جلطة. حملتها، وإلى أقرب طوارئ مستشفى. إلى «الرسول الأعظم» (المستشفى). فحص دم وتخطيط للقلب وصورة «سي تي سكان» للرأس. لقد اشتبهت الطبيبة، واسمها ديما، بجلطة في الدماغ، مع ما يعنيه ذلك مِن «سكتة» فجائيّة أو حصول نزيف. تَظهر النتائج، بعد أكثر مِن ساعتين، فلا نزيف (الآن على الأرجح). لكن الاحتمالات الأخرى قائمة بقوّة. لا بدّ مِن إجراءات أوسع، مراقبة مستمرة، والأهم، صورة مغناطيسيّة للرأس، وأشياء أخرى. تُقرّر الطبيبة: لا بدّ مِن إدخال «الحاجّة» إلى المستشفى. ذهبتُ إلى مكتب الدخول، وبيدي ورقة الطبيبة، طبيبتهم، والجواب: «لا أسرّة شاغرة للضمان». والدتي مسجّلة في «الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي». هناك أسرّة فارغة، إن شئت أن تدفع مِن جيبك، أن تدفع أموالاً طائلة، إنّما «على الضمان، فلا، لا يوجد». حسناً، ما العمل؟ يُجيب الشاب المتأنّق بهدوء: «سوف أجرّب أن أسأل لك إن كان هناك أسرّة ضمان لدى مستشفى السان جورج». كثّر الله خيرك. يتّصل، فيأتي الجواب: «هناك لا توجد أسرّة للضمان». يا أخ، والدتي، بشهادة الطبيبة التي عندكم، والتي تقول إنّ المريضة ممنوع عودتها إلى المنزل، لأنّها تحت خطر حقيقي، فيُمكنك أن تسألها. بهدوء، قاتل، مرّة أخرى: «لا علاقة لي بهذه المسائل». أفهم هذه الأشياء، ولكن قل لنا ما الذي يُمكنني فعله الآن؟ «عليك أن تذهب إلى مستشفى أخرى، عليك أن تبحث بنفسك، عليك أن تسأل». كنتُ حاضراً لتحمّل عبء النظر في كلّ «الوجوه الناشفة» في العالم، أن أستعطف أيّ خبيث، مُقابل أن تحصل أمّي على العلاج، أمّي التي ما زالت تتنفّس تحت جلطة يُمكن أن تذهب بها. كلّ التذلّل ذهب سُدى. سدّ منيع مِن التبلّد. غادرت بعد أن كنت دفعت، قبل المباشرة بالفحوصات، نحو 350 ألف ليرة. سيكون عليّ أن أدفع مجدّداً، في أي طوارئ مستشفى أخرى، لمجرّد الاستقبال والكشف… فضلاً عن الفحوصات.
حملتها مُجدّداً، كما حملتني صغيراً، إلى حيث أنجبتني، إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة. إنّها الواحدة فجراً. في الطريق، قالت لي: «خذني إلى المنزل، أنا بخير، سامحني شغلتلك بالك». تذرف دموعها. تلك الدموع التي جهدت، طوال عمري، لكي لا أراها على خدّيها. خدّاها الورديّان وقد أصبحا، الآن، أميل إلى الصفرة. كانت ليلة ماطرة في أيّار. ليلة فيها الكثير مِن اللامعقول. في قسم الطوارئ هناك، كان التشخيص نفسه، تُعاد بعض الفحوصات، والتشخيص نفسه: لا بدّ مِن إدخالها المستشفى والمبيت، أقله، لمدّة يومين، مع مراقبة مستمرة إضافة إلى صورة الرنين المغناطيسي لرأسها (هذه التي تحسم إنما تُجرى بعد الموافقة على الدخول). إلى مكتب الدخول، وأوراق الطبيب، مِن آل زغيب، بيدي. الجواب: «لا أسرّة للضمان». حسناً، عودة إلى التذلّل، الاستعطاف، الملاطفة، شتّى محاولات كسب ودّ الكائنات المعنيّة، وكلّ ذلك… لا جدوى. ما العمل؟ يقول الشاب، عبر فتحة الزجاج السميك، إنّ لديك أكثر مِن خيار: إمّا أن تدخلها على نفقتك الخاصة، وهذا يعني مبالغ طائلة جدّاً، جدّاً جدّاً، وإمّا أن ندخلها على حساب الضمان ولكن لا تنزل في درجة الضمان، بل في الدرجة الأولى، وهنا عليك أن تدفع الفرق. كم الفرق؟ يحسبها على الكومبيوتر فتأتي النتيجة: 2500 دولار أميركي، مقابل المبيت ليومين، هذا عدا الصورة المطلوبة وسائر الإجراءات الأخرى التي ستحتاجها، كذلك عليك أن تتذكر أنّها ربما تحتاج لأيّام كثيرة تقضيها هنا بحسب حالاتها. مَن يحمل في جيبه، دائماً، هذا المبلغ؟ حتى إن كنت تملك، فتريد أن تذهب لتُحضِر، فلن يباشروا بإجراءات الدخول قبل إحضار المال. عليك أن تدفع الآن، وإلا فلا دخول. أمّي في هذه الأثناء، ملقاة على سرير الطوارئ، بانتظار بتّ المسألة، وقد بدأت ترتجف وتبكي، أكثر. ذلك حرقة على ما يواجه ابنها، أعلم ذلك، لا لما في جسدها مِن ألم. أعرفها جيّداً. «خذني إلى المنزل، أنا بخير»، تقول. يعود الخدر إلى أطراف أصابعها. أعود إلى الشاب، عند مكتب الدخول، أسأله: أما مِن خيارات أخرى؟ يقول: يُمكنك أن تبقيها في الطوارئ حتى الصباح، وعندها يُمكن أن نتصل بمستشفيات أخرى، نتعامل معها عادة، علّ بعضها يقبل أن تدخل على «سرير الضمان». إنّها الرابعة فجراً. ما زالت تُمطر. في باحة الطوارئ، في الخارج، التدخين مسموح. جلست تحت المطر. ليس لدّي واسطة، لا صداقة تجمعني بوزير ولا نائب ولا نافذ متموّل، حتّى الأصدقاء، ممن هم في مثل حالي، يصعب الاتصال بهم في هذا الوقت. الكلّ نيام. لا أحد هنا، أعرفه، لأتسوّل منه الحياة. وحدي تماماً. أنظر في السماء، فيُبلل المطر وجهي. الوجوديّون يقولون إنّ المرء لا يواجه حقيقة «قذفه في العالم» إلا مرّة واحدة، بالتمام، ذلك عند لحظة موته. لم يتحدّثوا عن معاينة المرء لحظة موت أحد أحبته، الذين، لو كان له أن يختار، لاختار الموت بدلاً عنهم. كتبت سابقاً عن موت الآخرين عند أبواب المستشفيات. ها أنا أعاينه اليوم، بنفسي، لنفسي، مع نفسي. أنا الذات والموضوع، الدارس والمدروس، الميّت والحيّ، المعلّق في الهواء صبراً، تمزّقاً، صلباً… تحت المطر أتسوّل الحياة.
عند الصباح، وبعد استشفاف الإدارة شيئاً مِن صلابتي المدّعاة، المزيّفة، قرّر الأطباء، الذين كانوا قرّروا وجوب دخول أمّي المستشفى، أقلّه ليومين… قرّروا أنّ بامكانها المغادرة الآن، شرط أن تُجري الصورة للرأس في الخارج، وتذهب بها، سريعاً، إلى أحد الأطباء المختصين. أسعفونا بذكر اسم طبيب وعنوانه. كنت دفعت، مجدداً، نحو 300 ألف ليرة، ما يعني دفع أكثر مِن الحدّ الأدنى للأجور، في ليلة واحدة، بلا جدوى. إنّه صباح السبت. اليوم والذي يليه عطلة رسميّة في بلادنا. الضمان وكلّ الدنيا مقفلة. أنا الآن بانتظار استكمال الاجراءات الطبيّة لوالدتي مِن الخارج. المسألة أصبحت بحساب الأيّام. أجريت الصورة وظهر أنها ليست على ما يُرام. ما زلنا نتابع. طبيب ألماني، قرأت له، يقول: «الدماغ هو الوقت». كل ثانية تأخير هي موت لجزء. ماذا لو أصاب أمّي مكروه؟ أتعتقد إدارة المستشفى الأولى، ثم الثانية، ثم الضمان، قبلها وبعدها، أنّ المكروه سيُصيبها وحدها؟ نعم، هم على ثقة مِن ذلك. جرّبوا الأمر مراراً. اعتادوا ذلك. ليست المرّة الأولى التي تحصل هذه «الليلة. هذا يحصل كلّ ليلة. إنّهم لا يخافون. هذه هي. الخوف، محرّك العالم الأول، ولا شيء سوى الخوف. إمّا أن يخاف المرء مِن القانون، وفي ظلّ غياب القانون لن يستقيم شكل المنظومة، ولو لمدّة وجيزة، إن لم يخافوا مِن شيء آخر. لعلّ هذه المرّة الأولى التي أستخدم فيها ضمر «أنا» كتابة هنا. آمل ألا أكون الانتحاري الذي يفيد الآخرين، بفعل الخوف، ولو قليلاً. على أحد ما أن يَشعر بالخوف في هذه الأيام.