IMLebanon

أدين بعلمانية الشيخ عبد الله العلايلي

لبنان، على ما يبدو، منهمك في إدارة «الفراغ البنّاء». فراغ من صنع أيدي طبقة سياسية، فهي تريد رئيساً ولا تنتخبه، وتريد حكومة في مقام الفخامة، كأن يصبح كل وزير رئيساً بديلاً، بصلاحية النقض والتعطيل. مسكين تمام سلام.

ولا يسمّى هذا الأمر جديداً. هذه هي السياسة في لبنان. جدل بيزنطي حول دستور لم يحظ يوماً باحترام من تسلّم تصريف مواده. خلاف على كل اتفاق، وعلى كل خلاف… ولقد بلغنا بعد كل ذلك، مرحلة «دولة الحد الأدنى» و «سلطة ما تيسّر» و «برلمان ما أمكن»، من دون المساس طبعاً، بالاتفاق على قاعدة «النفاق من خارج الموازنة»، وهو أمر يسرّ الطبقة السياسية المحظية بحصصها التي لا تمس.

طبعاً، هذا الضعف المزمن، قادر على تجديد ضعفه، وقادر على اقناع «الطبقة السياسية المتحدة»، بأن تستقوي وتستعدي بانتظار «عودة غودو» من مكان إقليمي ما.

وهذا الضعف المتنامي والمترامي، أزاح عن كاهل «طبقته المستفيدة» واجب مواجهة الإرهاب التكفيري، القادر على التسلل راهنا، والمستعد للهجوم والاختراق، إذا تيسّر له ذلك. ولولا الجيش اللبناني، بما يملك من إرادة من دون تملّكه لأدوات عسكرية فاعلة، ولولا انتشار المقاومة على التلال والسفوح والقمم الشرقية، لكان لبنان مؤهّلاً بسرعة، ليكون بعضه إمارة، وأبعاضه الأخرى امارات محلية.

ممل تكرار هذا الكلام. مملة هذه التركيبة العاجزة والمفلسة، تركيبة «14 و8 آذار»، ألم يملّ اللبنانيون ذلك؟ ألم يضجروا من هذا «العَلك» وألم يشبعوا من هذا الاجترار؟ وألم يشعروا أن الحوار الذي تأخر سنوات هو حوار في فراغ عن فراغ لا يسد الفراغ المزمن. قد يلتقون على رئيس جمهورية، وعلى رئيس حكومة، وعلى حكومة وحدة وطنية، ومن ثم يختلفون على كل شيء، إلّا اذا افلحت المحاصصة في إسكات القضايا وإشباع المصالح، مناصفة ومثالثة و…

ما جاء به «تسجيل الزواج المدني في لبنان»، هو من خارج النص السياسي. وهو أمر جديد، لا يمت بصلة إلى دين الطبقة السياسية المعصوم والمقدس، والمستعدة لارتكاب فعل التكفير، إذا مسّت نصوص هذا الدين، الذي افتى بقدسية الطائفية وأزليتها.

للمرة الألف، لا مساس بالطائفية السياسية ولا «بالطائفية النقية». الطبقة السياسية، المزمنة، منذ ما بعد الاستقلال، ممترسة خلف هذا الدين. فهم كهنته، وهم جنوده، وهم المدافعون عنه، بالدم والنار، إذا اقتضت الضرورة. هذا اللبنان الرسمي، منذ التأسيس، ليس مختلفاً على الطائفية، بل على المشاركة فيها وعلى نوعيتها وعلى الموقع فيها وعلى التوازن ضمنها…

قديماً، عرف لبنان مشهداً بليغ التعبير، يجدر ذكره وتذكّر مغزاه دائماً: لا يتحد الطوائفيون، إلا إذا مست الطائفية، ولو بخدْش.

في 20/11/1969، عقدت هيئة محكمة استئناف بيروت، برئاسة القاضي يوسف جبران، جلسة خاصة لإصدار حكم بالدعوى التي تقدم بها المحامي سامي الشقيفي، لشطب ذكر الطائفة في خانته.

وافقت المحكمة في قرارها على شطب ذكر الإشارة إلى الطائفة في السجلات وفي بطاقة الهوية، وعلّلت حكمها، الذي تميز بالجرأة والقدرة على الاختلاف، باجتهاد، يجسّد تقدما في محاولة تطبيق مبدأ المواطنة الحقيقية، لا المواطنة المجازية أو اللفظية، والاعتراف بها كاستحقاق تفرضه القوانين، التي تغافلت السلطات المتعاقبة عن تنفيذه.

جاء في حيثيات الحكم: «حيث أن من يطلب شطب ما يشير إلى طائفته لا يمكن اعتباره قد ترك دينه أو مذهبه، وإنما يطلب إزالة ما يشير إلى توزيع المواطنين طوائف ومذاهب… فالمواطنة علاقة بين المواطن والدولة، ولا ضرورة في هذه العلاقة لذكر ما يربط الإنسان بربّه ظاهرياً وفي القيود… وحيث ما دامت الغاية من الطلب ليست التعرض أو التشكيك بالمعتقدات الدينية، بل إزالة الفرقة وشدّ اللحمة بين المواطنين الذين لا فضل ولا ميزة لأحدهم على الآخر، والأفضل أكثرهم ولاء لأمته، كما أن افضلهم عند الله اتقاهم، فلا يشكل هذا الطلب (طلب سامي الشقيفي) مخالفة للنظام العام أو شرعة الدولة الأساسية، ويقتضي بالتالي استجابته وشطب ذكر الطائفة عن خانة المستأنف وعن بطاقة هويته».

هذا نص يستحق ان يكتب بماء الذهب، ولكن اين نعلِّقه؟ لا مكان في قصر العدل أو في قاعات المحاكم أو في هيئات التشريع أو في الكليات والجامعات أو في وسائل الاعلام، لتعليق هذا النص اللبناني التأسيسي.

كان من المفترض ان يتمكن سامي الشقيفي من شطب الإشارة الطائفية، يتحرر من «المواطفة» ويصبح مواطناً. هذا الحكم لم ينفذ. الادعاء العام قرر تمييز الحكم. ومنذ ذلك التاريخ، لم تعقد جلسة تمييز واحدة، مات الشقيفي من زمان ومات آخرون كثيرون قتلا على الحواجز الطائفية. قيل إن عددهم يتراوح ما بين 70 الفاً و150 الفاً، قتلتهم الطائفية.

هذه الدولة، بالطبقة السياسية التي حكمتها على مرّ عقود، ليست جبانة أبداً. تعرف مصلحتها. تدافع عنها. الطائفية رصيد ثمين لا ينضب للسياسيين، من دون ان يبذلوا جهداً أو يدفعوا فلساً.

تعرف هذه «النخبة السياسية» أن المواطنة عدوٌ لها. بنت لبنان على سلسلة متصلة من التبعية، من تحت إلى فوق. وعممت هذا النهج على القطاعات كافة، من رأس الهرم حتى القاعدة، على اعتبار كل «مواطن» طائفياً. لا مكان لغير الطائفي. لذلك، وقفت الطبقة السياسية «الراسخة في الدين الطائفي، ضد شطب الإشارة، وضد الزواج المدني الاختياري في عهد الياس الهراوي، حيث أسقط بتحالف طائفي، بلغ حد تدخل السعودية الوهابية، لدفن هذا المشروع في أدراج طاولة مجلس الوزراء.

وعليه، فإن تسجيل الزواج المدني، وشطب الإشارة إلى الطائفة، هو طريق الاستقلال التام، عن هذه الطبقة الممسكة بالنصوص والنفوس معاً. ويتساوى في هذا المنحى رجال السياسة ورجال الدين. «حلف رخيص مقدس»، قائم على مصلحة الطرفين. إذ كيف تقبل مؤسسات دينية أن تحل الرباط المتين الذي يقيد الإنسان منذ ولادته حتى مماته، بالتشريعات التي تنسب إلى الكتّاب أو الدين. قد تكون كذلك في الأصل. أما راهنا، فهي أداة كسب، معظمه غير شرعي ومسموم وموبوء.

إزاء صمت البعض وتهرب البعض وخوف البعض، لا يبقى أمام جيل المستقلين عن طوائفهم، غير المثابرة والعناد وعدم التنازل. ان هؤلاء، جيل نقي، وبهم يستقيم الوطن، وبهم يتحقق ما قاله الشيخ عبد الله العلايلي «نحن مدعوون إلى الغاء الطائفية، لا بحكم الوطنية فقط، بل بحكم الإنسانية. وكل تلكؤ معناه، خسران الوطنية والإنسانية جميعاً».

من هنا يبدأ مستقبل لبنان. ومن هناك يصحّ القول، «لبنان ينتحرونه».