تستخدم الأسواق في لبنان في الوقت الراهن جرعة الاوكسجين التي حظيت بها عقب انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وبدء مشاورات تشكيل أول حكومة. لكن صلاحية هذه الجرعة لا تمتد لفترة طويلة، خصوصا انها جرعة معنوية، ولا علاقة لها بأي اجراءات عملية ملموسة يُبنى عليها لانقاذ الوضعين المالي والاقتصادي.
منذ أن تلمست الأسواق اللبنانية مؤشرات الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية، ووضع حد للفراغ الذي استمر لسنتين ونصف السنة، ظهرت ايجابيات تمثلت بمناخ نفسي متفائل انعكس على حجم حركة بورصة بيروت، وعلى أسعار اسهم شركة سوليدير، وعلى زيادة نسبة الاستفسارات والاسئلة في القطاع العقاري…
هذه الحركة الايجابية يمكن ان تمهّد لارساء وضع اقتصادي جديد اذا ما اقترنت بخطوات عملية. لكن، وقبل الوصول الى مرحلة الاعمال على المستوى الاقتصادي، لا بد من اجتياز قطوع التشكيلة الحكومية في وقت سريع ليكون ذلك بمثابة جرعة تفاؤل اضافية تسمح بالاعتقاد ان القطار وُضع فعلا على السكة، وان لا عودة الى الوراء.
اذا تم هذا الامر، فان الخطوات اللاحقة التي تنتظر الحكومة الجديدة تبدو بديهية، وهي يُفترض ان تركّز على تحقيق الامور التالية:
اولا – اتخاذ قرار بوقف نمو الانفاق غير المجدي، وتحسين الايرادات، لخفض نسبة نمو الدين العام الذي بلغ وتيرة تصاعدية غير مسبوقة، وأصبحت السيطرة عليه مُكلفة جدا. هذا القرار ينبغي ان يتم من خلال الموازنة العامة.
ثانيا – إرساء خطة اصلاحية للقطاع العام تتماهى وملف سلسلة الرتب والرواتب. هذا المشروع نشأ في الاساس على ركيزة الاصلاح وليس مجرد تصحيح او زيادة الرواتب. وبالتالي، لا بد من نفضة ادارية تتناول الوظيفة العامة، وتحوّل هذا القطاع من مركز للفساد والهدر، الى موقع انتاجي يساهم في النمو العام.
ثالثا – وضع خطة اقتصادية ومالية، ترسم معالم المطلوب في المرحلة المقبلة. هذه الخطة ينبغي ان تأخذ في الاعتبار وضع تصوّر مسبق للسنوات الخمس المقبلة، بحيث يكون معروفاً منذ اليوم، كم سيبلغ الدين العام في هذه الفترة، كم ستصبح كلفة هذا الدين، ما هي تقديرات النمو المطلوب للوصول الى مستويات مقبولة في قياس حجم الدين الى الناتج المحلي.
رابعا- معالجة مسألة التصدير البري، والتصدير الى سوريا، خصوصا بعدما تبين ان هذا الملف حيوي لدعم القطاعين الصناعي والزراعي.
خامسا – استعادة السائح والمستثمر الخليجي. وللتذكير، لا يمكن ان نستعيد المستثمر قبل السائح. بمعنى ان عودة السائح الخليجي هي التي تمهد الطريق امام عودة المستثمر، فالسياحة لا تشكل مصدراً مهما للعملات الصعبة فحسب، بل انها ممر الزامي لجذب الاستثمارات الخليجية مجددا الى لبنان.
سادسا – العمل بجدية على ملف النفط والغاز، واجراء دراسة علمية للتاكد من جدوى هذا القطاع وتوقيت معالجتها. اذا ما تبين غياب الجدوى ينبغي سحبه من التداول حاليا بانتظار تغيّر الظروف، اما في حال تبين ان الجدوى لا تزال قائمة ينبغي مقاربة الملف بسرعة وجدية للانتقال الى التنفيذ، لأن المرحلة التي تفصل التلزيم عن الانتاج تمتد لسبع سنوات على الأقل.
سابعا- رسم خطة للانفاق الاستثماري على البنى التحتية. وبالمناسبة، ينبغي الاسراع في انجاز الانتقال الى مرحلة الالياف الضوئية في قطاع الاتصالات والانترنت، لأن هذا القطاع مُسرّع للأعمال، خصوصا في قطاع مشاريع المعرفة التي تشهد نهضة لافتة في هذه الفترة رغم كل الصعوبات التي واجهت البلد.
وما يحتّم الاسراع في هذا الامر، هو وجود مشروع دولي لمد خط الياف ضوئية جديد يربط المنطقة بافريقيا وقسم من آسيا. هذا المشروع قد ينتهي في غضون سنتين، ومن الحيوي ان ينهي لبنان مشروعه لكي يربط نفسه بالخط الجديد.
ثامنا – معالجة ملف النزوح السوري بروحية جديدة. وهنا لا بد من الاعتراف بأن الضرر وقع، ولا يمكن تفادي السلبيات، لكن المطلوب استيعاب التداعيات، وتخفيف أضرار النزوح من خلال محاولة زيادة حجم المساعدات التي يمكن ان يحصل عليها لبنان ومن خلال المزيد من الضبط لسوق العمل لمنع المنافسة غير المشروعة.
كل هذه الملفات لا يمكن ان تتحقّق بين ليلة وضحاها، لكن في الامكان بدء العمل التأسيسي لوضعها موضع التنفيذ تباعاً. والعملية الانقاذية على المستوى المالي والاقتصادي ليست فجائية بل نتيجة تراكمية، لكن لا بد من بدء المُراكمة لكي نأمل بالحصاد، ولو بعد حين.