تؤكد أغلب المعلومات والتحركات المتصلة بالشأن الإيراني، أن إيران ستوافق على الانسحاب من سوريا، وأن ما يشبه تجرع السم في الحرب الإيرانية – العراقية سوف يحصل، وإن كان تنفيذ الأمر سوف يتعلق بالآلية التي تجعله ممكناً بما يتماشى والعنجهية الإيرانية، وبقبول الولايات المتحدة التي لا شك أنها حريصة على إبقاء قليل من ماء الوجه لدولة الملالي، خصوصاً أن تصريحات رجال الإدارة الأميركية خففت من لهجتها في الموقف من إيران في الآونة الأخيرة، لا سيما قول إن المفاوضات مع طهران لا تحتاج شروطاً مسبقة، وإن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام.
انسحاب إيران من سوريا، الذي بدأت أولى خطواته بسحب ميليشيات «الفاطميون»، لن يكون انسحاباً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل هو انسحاب شكلي، لا يمس جوهر حضورها وسيطرتها، وكلاهما سيبقى حاضراً وفاعلاً، وسوف يلمسه القريب والبعيد، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل، تماماً وفق طريقة الانسحاب الإيراني بالرعاية الروسية إلى ما بين ثمانين ومائة كيلو متر عن خط وقف إطلاق النار في الجولان، طبقاً لمطالب إسرائيل، حيث ذاب الوجود الإيراني في المنطقة وسط انسحاب جزئي منها.
الانسحاب الإيراني المحتمل من سوريا، ليس من بوابة الاستجابة للمطالب الأميركية – الإسرائيلية، وإن كان فيه بعض ذلك تجنباً لمواجهات أبعد، إنما هو وقف للعمليات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية في الأراضي السورية، ومنع لاحتمالات مواجهة، أو صدام عسكري يمكن أن يحصل بين إيران وإسرائيل، لا ترغب فيه طهران، كما أنه في جانب مهم دعم لمساعي إعادة تطبيع علاقات نظام الأسد مع المحيط الإقليمي والدولي، الذي يقف وجود إيران العلني دونه في سوريا.
الترجمة الفعلية للانسحاب، ستكون عبارة عن سحب بعض الوحدات العسكرية والميليشيات المؤيدة لإيران، والجزء المتبقي الذي يمثل ضرورة عسكرية – أمنية للبقاء، سوف يتحول إلى جزء من جيش الأسد، ينتشر في قواعد مخصصة له ضمن حواضن مأمونة على نحو ما هي عليه الفرقة الرابعة في «الحرس الجمهوري»، التي يقودها ماهر الأسد، وهو أحد رجال إيران البارزين في نظام الأسد، وستبقى إلى جانبهم مجموعة من «الخبراء العسكريين والأمنيين» الإيرانيين، وهي قضية لن يتوقف الكثيرون عندها. وستكون المجموعة العسكرية – الأمنية، سواء من الوحدات أو الخبراء الباقين، بمثابة غرفة عمليات إيرانية ترصد وتحلل وتضع خططاً، ويمكنها أن تدير تكتيكات طهران، وتقود معاركها في سوريا، عندما تدعو الحاجة، وستجد هذه المجموعة سنداً سورياً داعماً، يشكل بناءً هرمياً، يبدأ من قمة النظام، ويتوسع في كل المؤسسات والهياكل السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية للنظام وللمجتمع في مناطق سيطرة الأخير، وهو أمر اشتغل عليه الإيرانيون طوال أربعة عقود من علاقاتهم مع نظام الأسد، وركزوا عليه أكثر بعد ثورة السوريين عام 2011، عبر تدخلهم المباشر والواسع، بحيث صارت لهم شخصيات قيادية مرتبطة بهم، ومؤسسات وهياكل عسكرية وأمنية تعمل تحت سيطرتهم المباشرة، ولهم سيطرة في أوساط نخبة النظام من رجال أعمال وشخصيات اجتماعية ودينية، وقد عززوا وجودهم البشري والاقتصادي والثقافي في مناطق سيطرة النظام بشراء أراضٍ وعقارات، وإقامة شركات، وحصلوا على استثمارات، وأقاموا مؤسسات دينية وثقافية تروج التشييع الفارسي، وأحكموا سيطرتهم على الطائفة الشيعية، وأغرقوا البلاد بحملات التشييع، خصوصاً في ريفي دمشق ودير الزور، وتعزيز علاقات إيران في أوساط الطوائف الأخرى، وطوروا عبر السنوات الأخيرة بنية سياسية – ميليشياوية، أبرز تعبيراتها «حزب الله السوري»، في محاولة لخلق توأم سوري لـ«حزب الله اللبناني».
الانسحاب الشكلي من سوريا، يمثل خديعة إيرانية جديدة اعتاد نظام الملالي على ممارسة حلقات فيها منذ ولادته في عام 1979، فقد خدع الملالي بقيادة الخميني الشعب الإيراني بوعده أن يكونوا البديل لنظام القهر، الذي كان يمثله نظام الشاهنشاه محمد رضا بهلوي، فصاروا أكثر منه قهراً وقمعاً، إضافة إلى تشددهم وتطرفهم، وخدعوا شركاءهم في الثورة من «مجاهدي خلق» وغيرهم، وعملوا على تصفيتهم بعد إبعادهم، وخدعوا جيرانهم العرب بالإخوة والحرص عليهم، ومساندتهم ضد العدوان الإسرائيلي ودعماً لقضية فلسطين، قبل أن تنكشف علاقاتهم مع إسرائيل في فضيحة «إيران غيت»، وقبل أن يسكتوا عن كل الضربات الإسرائيلية لقواتهم وقواعدهم في سوريا، وخدعوا أخوتهم المسلمين بشعارات الإخوة والمساواة، واستبدلوها عملياً بتصدير الثورة، وبالتدخلات المسلحة التي تظهر نتائجها واضحة في خراب العراق وسوريا ولبنان واليمن.
إن المثال الفاقع للخديعة الإيرانية للعالم تجسده فتوى المرشد الإيراني علي خامنئي الخاصة بالأسلحة النووية، التي أكدت: «نعتبر استخدام هذه الأسلحة حراماً، وأن السعي لحماية أبناء البشر من هذا البلاء الكبير واجب على عاتق الجميع»، وقد جاءت الفتوى في وقت كانت فيه سلطة إيران، التي يقودها صاحب الفتوى تسير بخطوات متسارعة لامتلاك قدرة نووية، وجرى استخدام الفتوى لتضليل الرأي العام، وللتأثير على القوى الدولية في مفاوضاتها مع إيران حول مشروعها النووي.
وإذا كانت سياسة الخديعة الإيرانية سوف تتكرر في موضع الانسحاب الإيراني المحتمل من سوريا، فإن مسؤولية المجتمع الدولي والدول التي ستدير المفاوضات مع إيران والجوار الإقليمي لإيران، أخذ الحيطة والحذر من احتمالات الخديعة، والتأكيد على أن انسحاب إيران من سوريا هو انسحاب حقيقي لا شكلي.