لم يحصَل أن باتَت أعدادُ النازحين واللاجئين إلى بلدٍ متقاربةً إلى حدِّ التساوي مع عددِ سكّانه. وفي وقتٍ تَمَنَّعَ المسؤولون اللبنانيون في الأمس القريب عن الإنصات إلى الأصوات التحذيريّة، يَتسابقون اليوم للبحث عن حلول سِحريّة تَقيهم تداعيات زحفِ النزوح الذي سيَتفاقم إذا ما استمرّت الأزمة السورية في التمدّد. وفيما غابَت المساءَلة، لم تعُد تنفعُ إضاعةُ الوقت بعدما أصبحَ الوطن معَرَّضاً للذَوبان وأصبحَ الكيانُ مهدّداً في مختلف وجوهه الديموغرافية والاجتماعية والثقافية، في ظلّ الأرقام المتصاعدة وفوضى التنظيم، وسط مخاوف مِن أن يُصبحَ النزوح السوري الموَقّت لجوءاً دائماً… فتَوطيناً.
في السياق عُقِدت ندوات كثيرة في لبنان حذّرَت من تداعيات النزوح وطرَحت أشكالاً عدّة لمكافحتِه، خصوصاً أنّ المشكلة لم تعُد محصورةً بمستوى ضَيّق إنّما امتدّت لتشملَ كلّ شرائح المجتمع اللبناني إداريّاً وسياسياً، وتطاوِل مختلفَ القطاعات، وخصوصاً الاقتصادية والاجتماعية.
وكان وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس قد حذّرَ في الماضي القريب خلال ندوةٍ استضافتها جامعة الحكمة تحت عنوان «قبل أن يصبحَ اللجوء توطيناً»، مِن تجاهُلِ قضية النزوح طوال ثلاثة أعوام حتى دخلَ الطوفان إلى البيوت، في حين أنّ لبنان قد امتلأ بالمخيّمات العشوائية التي أصبحَ عددها 1700 مخيَّم لا رقابة للدولة عليها إنْ أمنيّاً أو صحّياً أو اجتماعياً أو تربوياً، وهذا أمرٌ غيرُ مسبوق في العالم وفي التاريخ.
ولأنّ لبنان ليس مستودعاً لمهجَّري الحروب، ولأنّ المستودعات للبضائع وليست للإنسان، ولأنّ المركبَ ناءَ بحمولةٍ لا يتوقّعها حتى شارفَ على الغرق، ولأنّنا شركاءَ للعرب وللعالم، يجب عليهم دفعُ حصّتِهم لهذه الشراكة.
اليوم الكويت أوّلَ من سمعَت النداء وأفرجَت عن نصف مليار دولار، وهي الهبة التي كانت قد قدّمَتها في مؤتمر الدوَل المانحة الذي استضافَته أخيراً.
وفي هذا السياق وبعدما دقَّ ناقوس الخطر نتيجة الأرقام المرتفعة للنازحين وتأثيراتها السلبية على القطاعات الاقتصادية والأمنية والصحّية والاجتماعية وعلى صعيد البنية التحتية والديموغرافيا، كان لا بدّ مِن دراسات معمَّقة وأبحاثٍ وتقارير موَثّقة لمنظمات كبرى تؤكّد بالأرقام حقيقةَ الوضع القائم وحجمَ الخطر المقبل.
وقد بيّنَت هذه الأرقام حجمَ البطالة والفقر والجرائم في لبنان خلال عامَي 2014 و2015 وفقَ الآتي:
• 40 في المئة مِن السجناء سوريّون.
• زادَ المعدّل العام للبطالة نحو 10 في المئة.
• زادَ معدّل البطالة بين الشباب 20 في المئة.
• 80 في المئة من المهاجرين لبنانيّون ما دونَ الـ 35 عاماً.
• 38 في المئة من خرّيجي الجامعات عاطلون عن العمل.
• 45 في المئة من الذكور و25 في المئة من النساء يهاجرون خلال سَنة من تخرّجهم.
• 50 في المئة وظائف من دون عَقد عمل.
• 44 في المئة هي نسبة الهُوَّةِ بين التعليم وسوقِ العمل.
وقد سجّل ترَدّياً ملحوظاً وخطيراً في الخدمات العامة والبنى التحتية، إذ يستهلك السوريّون نحو:
• 340 ميغاواط كهرباء عام 2014
• 90 مليون ليتر مياه يومياً.
• 6 ملايين رغيف يومياً.
• تضاعفَت نسبة النفايات الصلبة ومياه الصرف الصحّي.
• زادت أزمة السير بين 20 و30 في المئة.
هذه الأبحاث والإحصاءات أجرَتها شركات ومنظمات عدّة، منها البنك الدولي – الإسكوا – والـILO (منظّمة العمل الدولية)، بالاشتراك مع جامعة الحكمة التي أشرفَت بدورها على دراسة عن تداعيات النزوح مع عميد كلّية إدارة الأعمال والاقتصاد في جامعة الحكمة ورئيس الرابطة العالمية للاقتصاد في لبنان روك أنطوان مهنّا ونشرَتها في مجَلّات عالمية، عِلماً أنّ معظم الأرقام مصدرُها مؤسسات دولية تُعنى بهذا الشأن، بالإضافة إلى دراسة وضَعها الاتّحاد الأوروبّي.
60 في المئة من الحلّ داخلي
مهنّا تحدّثَ لـ«الجمهورية» عن حلول كثيرة داخلية يمكن للدولة تنفيذها بدلاً من البكاء على الأطلال وانتظار المعونات المادّية والدولية، فاعتبرَ أنّ 60 في المئة من هامش الحَلّ هو داخليّ بالتعاون مع الحكومة والوزارات من خلال وضع حدٍّ وسقفٍ لعَدد النازحين وإعادةِ بعضِهم إلى أماكن آمنة وتجميد اتّفاقية العمل مع سوريا (1993)، بالإضافة إلى إحصاء عدد النازحين والتمييز بين الهجرة الاقتصادية والنزوح الموَقّت.
وفَنَّد مهنّا دورَ الوزارات كافّةً لمعالجة تداعيات النزوح، واضعاً الحلولَ ضمنَ جدول أعمالها:
• وزارة الداخلية (دفتر سَوق لبناني – بطاقات للإحصاء).
• وزارة الاقتصاد (تسجيل العمل).
• وزارة المال (رقم مالي – دفع ضرائب).
• وزارة العمل (إجازة عمل وإقامة والتحَقّق مِن نوع العمل بعد فترة).
أمّا بالنسبة إلى أرقام البطالة، فأوضَح مهنّا أنّها تبقى تقديرية، إذ تقدَّر نسبتُها في لبنان بأكثر ممّا هو مذكور في الدراسة، محَذّراً مِن خطورة زعزعة بنيةِ الاقتصاد اللبناني وهو أمرٌ لا يمكن التغاضي عنه، مناشِداً الإضاءةَ على هذه المشكلة الطويلة الأمد.
ولفتَ مهنّا في هذا السياق إلى وجود دورة اقتصادية سوريّة داخل الدورة الاقتصادية اللبنانية، وهو شيء لم يَشهَده لبنان أبداً في تاريخه، ويُعتبَر قضيةً خطيرة، موضِحاً أنّ «هذه الدورة تبدأ حين يأتي التاجر السوري ويَشتري البضاعة من معمل في سوريا ويوزّعها للتاجر السوري ويَبيعها للمستهلك السوري ويشَغّل اليد العاملة السورية، فتقوم بالتالي حركة اقتصادية سوريّة داخل الحركة الاقتصادية اللبنانية، وبذلك تولَد لدينا أزمة كيان الاقتصاد الذي يتغيّر».
مرتبة أخيرة في الكفاءة
وعن الاقتصاد اللبناني، أظهرت تقارير صدرَت أخيراً أنّ لبنان حَلَّ في المرتبة 13 ما قبلَ الأخيرة، قبل اليمن، لجهةِ الكفاءة لدى الرسميّين من مديرين عامّين ووزراء، وذلك نتيجة اللعبةِ السياسية في لبنان، فيما احتلّت قطر المرتبة الأولى، في الوقت الذي يمكن للهيئات الاقتصادية إطلاق مبادرات صغيرة مشَجّعة وعدمُ التلَهّي بالسياسة المركزية، وهو تعاون المصارف في ما بينَها لإنشاء تعاونيات زراعية ومصانع، قطاع مصرفي وقطاع تعليمي، وهنا تكون الشراكة الحقيقية.
وبيّنت الأبحاث وجود نقصٍ في قطاع التمريض والعمّال التقنيّين والأعمال المهنية التي تصَنّف درجةً ثانية وثالثة في نظر اللبنانيين، والحلّ هو في إنشاء مدارسَ متطوّرة وحديثة لهذه القطاعات لتَغيير المفهوم العام وللتعويض عن النقص.
لكنّ لبنانَ وفق مهنا «لا يسعى إلى تطوير وتقويةِ المدارس المهنية والتقنية، فيما كان الأولَى بالاقتصاديين الذين اعتلوا المسرحَ في «البيال» بدلاً من إطلاق الصرخةِ، أخذ المبادرات والعمل على بناءِ وتقويةِ مدارس مهنية لأنّ الكلام لا يكفي وحدَه، إذ لا يمكن أن نسأل دائماً أين الدوَل الداعمة، خصوصاً أنّ القطاع الاقتصادي لطالما اعتُبِر خارجياً «رافعةَ لبنان». وعلى رغم أنّ المعالجة الداخلية تبقى الأنجَع، شَدّد مهنّا على أنّ حكومة لبنان تعيش في «كوما»، وتكمن مشكلة وزاراتِنا في المتابعة.
أزمة السير
في المقابل، شَدَّد مهنّا على وجوب التعامل مع الهِبات الخارجية بطريقة ذكيّة، وآخرها الهبة المقدمة من الكويت، وبدلاً من طلبِ الأموال، خصوصاً في ظلّ الركود الاوروبي، هناك طرُق تمويلية لمشاريع بُنى تحتية كبرى مِثل بناء جسور كبيرة تحلّ أزمة السير، ويمكن لهذا المشروع بالتالي تأمين فرَص عمل للسوريين النازحين يَمنعهم من اعتماد الطرق الملتوية مثل السَرقة والجرائم التي تخَلّفها البطالة، ويسهِم كذلك في الحدّ من أزمة السَير الضاغطة التي يَئنّ تحتَها الشعب اللبناني، ويَسمح لليد العاملة السورية بأن تتدرّبَ ويصبح لديها خبرة وكفاءة يوم عودتِها إلى سوريا لتسهمَ بدورها بهذه الخبرة التي اكتسبَتها في إعادة بناء سوريا.
وشرحَ مهنّا دراسةً أعدَّها عن كِلفةِ أزمة السير على لبنان التي تُقدَّر بنحو 4 مليارات دولار وفقَ المناطق، وهي كلفةٌ مباشَرة وغير مباشرة، إضافةً إلى ما تُخَلّفه من كِلفةٍ صحّية على مستوى التلوّث وإضاعة الوقت.
وأشار إلى أنّ «شركتَين قدَّمَتا عروضاً، بينهما شركةٌ صينية كانت قد قدّمَت العرضَ لمدّة 10 سنوات لبناء جسر بحريّ يَصِل طرابلس – شكّا – جبيل – جونيه، وكلَّ مفارق المخارج وفقَ اوتوستراد سريع»، ملاحِظاً أنّ «الله اعطى لبنان هبةَ 215 كلم جغرافياً على شاطئ البحر لكنّنا لا نَعرف كيف نستفيد منها لحلّ أزمة السير ونحلّ معها أزمةً كبيرة للنازحين السوريين وللشحنِ التجاري خلال 10 سنوات».
تقرير سرّي
وفي ملف النازحين، يَكشف تقرير سرّي وخطير عن نقطتين مهمّتين تشيران إلى أنّ 50 في المئة من السوريين الموجودين داخل لبنان، والمخيّمات تحديداً، لا يريدون العودةَ إلى سوريا، وشَكّلوا ما يسَمّى «الهيكلية العسكرية» داخلَ المخيمات وخارجَها، إضافةً إلى حركة عسكرية مبرمجة من ضبّاط وعناصر، ويَبقى الخوف أن ينساقَ هؤلاء إلى جهات عدّة قد تُغريهم بالبقاء وتسَلّحُهم فيما لو دعت الحاجة.
وفي هذا السياق نُذَكّر بسؤال للوزير رشيد درباس: إذا كان بين المليونَين سوري، 100 ألف ذَكر تتراوح أعمارُهم بين 20 و30 عاماً وأعطِيَ كلُّ فردٍ منهم «بارودة»، ألن يصبحَ عددُهم أكثرَ مِن أفراد الجيش اللبناني؟».
يبقى القول أن النزوح السوري يُهَدّد الكيان اللبناني، ويُعتبَر أخطر من الوجود العسكري أيام الوصاية، فالوجود العسكري كان منَظّماً تحت غطاءِ مظلّةٍ دولية، وعندما زالت هذه التغطية عاد إلى بلاده. أمّا المخيّمات فإنها غيرُ منظّمة أمنياً، وتضمُّ أجنحةً منظّمة تُديرها، ولا ينقصُها سوى التحرّك، ويمكن تسميتُها بامتياز «خلايا نائمة».