IMLebanon

قبل وفاة المريض

سيدخل سيرغي لافروف التاريخ بوصفه عبقرياً في فن التضليل. براعاته تمتد من مبنى بان كي مون في نيويورك إلى مكتبه في المبنى الستاليني في موسكو. قد يتقدم مقعده على مقعد سلفه أندريه غروميكو. وربما أقام في صفحة واحدة مع هنري كيسنجر حيث لا مكان لتسلل رجل اسمه جون كيري.

كان فلاديمير بوتين يحتاج إلى اتفاق من قماشة ذلك الذي أبرمه لافروف مع نظيره الأميركي. المعاني أهم من النصوص. الاتفاق يعني أنه شريك لا بد منه في البحث عن السلام في سورية. شريك على رغم قيامه باسترداد القرم وزعزعة استقرار أوكرانيا والعقوبات الغربية. يستطيع القول بعد الاتفاق أنه تدخل عسكرياً في سورية لمكافحة الإرهاب وتسهيل التوصل إلى حل سياسي.

لا يريد بوتين إعطاء الانطباع أنه جاء في حرب مفتوحة. وأنه يريد كسر إرادة جزء رئيسي من الشعب السوري أو السنّة في الإقليم والعالم. ويريد في الداخل صورة محارب الإرهاب على رغم اطمئنانه إلى نتائج الانتخابات النيابية الروسية المقررة الأحد المقبل. يكاد الاتفاق أن يعطيه شهادة حسن سلوك على رغم ما فعلته طائراته بمدنيين ومعارضين معتدلين. مطالبة مقاتلي المعارضة بالابتعاد عن «جبهة النصرة» ستحقق مكسباً إضافياً للنظام الذي نجح في إعادة محاصرة حلب بدعم روسي وإيراني. أي شراكة أميركية روسية في الغارات على الإرهابيين في سورية ستعطي للأزمة ملامح جديدة حتى لو استمر الحديث عن الانتقال السياسي.

لا يريد باراك أوباما مغادرة مكتبه من دون أن يفعل شيئاً في المذبحة الأكبر بعد الحرب العالمية الثانية. يريد على الأقل إعطاء الانطباع أنه حاول حتى الساعة الأخيرة. الاتفاق سيساعده على غسل يديه مرة أخرى. وسيثري مذكراته ويرفع سعر مذكرات وزير خارجيته.

أيد النظام السوري الاتفاق. مجرد إبرامه ينقل الحديث إلى مكان آخر. يطوي صفحة البراميل المتفجرة والكلور والتغيير الديموغرافي ويركز على إدخال المساعدات الإنسانية وفتح الباب أمام المفاوضات والمناورات. والواقع أن النظام اليوم هو في وضع أفضل من السابق على رغم القناعة بأنه غير قادر على استعادة سيطرته على كامل الأراضي السورية أو وقف الحرب بلا ثمن باهظ.

لتركيا مصلحة في تأييد الاتفاق. نجح رئيسها في توجيه ضربة إلى أكراد سورية وإجهاض حلمهم بضمان تواصل بري بين المناطق التي يسيطرون عليها. نجح أيضاً في تقديم نفسه كمحارب للإرهاب الذي يختصره بوجود «داعش» و»حزب العمال الكردستاني».

لإيران مصلحة في الإعلان عن تأييد الاتفاق. لقد تراجع شرط إزاحة الرئيس بشار الأسد على الأقل في المرحلة الحالية التي توحي أن النظام شريك لا بد منه. ثم أنه يمكن تأييد الاتفاق والرهان على سقوطه عبر أحداث ميدانية لا تحمل بالضرورة بصمات محركيها.

المعارضة السورية المعتدلة في وضع لا تحسد عليه. قتلها «داعش» الذي جعل «النصرة» شريكاً لا بد منه. وقتلها التدخل الروسي والإصرار الإيراني. وتغير الدور التركي المصاب أصلاً بالهاجس الكردي. الوسادة الأميركية مليئة أصلاً بالأشواك والخيبات لكن لا بد منها. صحيح أن للمعارضة المعتدلة أصدقاء لن يتخلوا عنها لكن قلب مسار الأحداث يبدو صعباً.

لا وقف النار سهل في سورية. ولا فرز المعارضة. ولا الانتقال السياسي. الشكوك عميقة بين طرفي الاتفاق. وبين المتحاربين على الأرض. وبين القوى الإقليمية المعنية بالنزاع. لافروف يفخخ الاتفاقات بالالتباسات. والنظام أستاذ في الالتفافات. وإيران عند موقفها: «تكون سورية كما كانت أو لن تكون لأحد». ووسط بحر الجثث والمصابين والمهجرين يقف ستيفان دي ميستورا بنظارتيه اللطيفتين وقميصه الناصع.

من المبكر وضع لائحة الانتصارات والهزائم والضحايا. نعرف اسم القتيل الكبير إنه سورية. ونعرف اسم المهزوم الكبير إنه سورية. أصيبت سورية بأعطاب قاتلة في وحدتها وسيادتها واستقرارها ودورها. إذا قيض لوقف النار أن يولد ويصمد سينكسر قلب السوري من اكتشاف أهوال ما حدث. سينكسر قلب العربي أيضاً. فدمشق ليست عاصمة عابرة في تاريخنا. وبغداد ليست عابرة أيضاً. كأنما قدر العروبة أن تخسر هنا وهناك وهنالك. قد يتبين لاحقاً أن الاتفاق يشبه محاولة ‘نعاش أخيرة قبل التسليم بوفاة المريض.