IMLebanon

قبل أن تبدأ الحرب: عن الرهينة والتابع

 

لا يمكنك، ببساطة، أن تفعل هذا. بعيداً عن التقنيات القانونية والشكليّات، رئاسة الوزراء منصب سياسي، يحمل معه مسؤولية سياسية، وليست وظيفة في شركة أو عملاً صيفيّاً. لا يمكنك أن تعلن استقالتك من عاصمةٍ عربيّة بعد أنّ تمّ استدعاؤك اليها، ثم تتلو على اللبنانيين بيان حربٍ وتخبرهم، فجأةً، أنّه قد تقرّر تجنيدهم في معركة ضدّ ايران، ثم تختفي ولا يعرف أحد ما جرى وكيف.

 

في هذا الإطار السوريالي، ليس من الغريب أن يتساءل النّاس عن حالة سعد الحريري، وعمّا إن كان حرّاً طليقاً أو غير ذلك، ليس لأنّهم يحبّون نظريّات المؤامرة، بل لأنّ «الواقع» في حالاتٍ كهذه يشبه المؤامرة الى حدّ مريب. ومن زاوية المنطق وعلم الاحتماليّات، من الصّعب جدّاً أن تكون استقالة الحريري، وموجة الاعتقالات (والوفيّات) في السّعوديّة، قد جرت في يومٍ واحد بمحض الصدفة البحتة، وليس بينها أيّ ارتباط. أكثر من ذلك، لا يمكن استبعاد شيء، فولي العهد الذي زجّ، في ليلةٍ واحدة، بنصف أهله واسرته في المحبس لن يغصّ ويتردّد حين يتعلّق الأمر بسعد الحريري.

 

«كرة كبيرة من الخطأ»

 

المفارقة الحقيقيّة هي أنّ المشكلة لن تحلّ في ما لو اكتشفنا أنّ سعد الحريري «حرٌّ»، وأنّه قرأ بيان الاستقالة بإرادته وهو يعني ما جاء فيه ويفقه ما يقول، بل تصبح المشكلة أكبر وأعقد. الأساس هنا هو أنّه، في علاقة اللبنانيين مع الدّول «الراعية»، فإنّ الفارق بين أن يكون الزعيم يتكلّم تحت تأثير مسدّسٍ في رأسه وبين المسار الطبيعي لعمله السياسي هو فارقٌ نظريٌّ وفلسفيّ. بمعنى آخر، المشكلة في ما فعله سعد الحريري كانت أساساً في الشّكل والتّوقيت وليس في الجّوهر؛ ولو أنّ الحريري قد عاد الى بيروت بتعليماتٍ سعوديّة وحضّر محيطه ومهّد، ثمّ تلا البيان نفسه بعد أسابيع، لما استغرب أحد. المسألة اذاً ليست في أن تكون حرّاً وأن لا تكون «رهينة»، بل في أن لا تبدو كذلك (خاصّةً حين تقوم أجندتك السياسية على شعارات السيادة وبناء الدّولة). المشكلة ليلة السّبت كانت في أنّ هذه العلاقة التقليدية بين السيّد والتّابع قد تمّ تكثيفها بصورةٍ كاريكاتوريّة، يصعب على الجّمهور تصديقها واستيعابها، ولكنّها ليست استثناءً في السّياسة اللبنانيّة، وهنا الامثولة ممّا جرى: أنّنا قد رأينا، في لحظةٍ كاشفة، طبيعة علاقات القوّة في النّظام اللبناني، وكيف يطيع الزعيم تعليمات الأمير مهما كانت، والى أيّ حدٍّ هو مستعدّ لأخذ بلاده وشعبه حين تأتي الأوامر.

«الجّهاز» الذي يعقلن هذه العمليّة السياسية ويسوّقها بين النّاس ويتلوّى كما تريد هو الإعلام، ولذلك كان الإعلام اللبناني، في تلك الليلة المخجلة، تكثيفاً لكلّ ما هو سيّئ في البلد (على الهامش: التلفزيون اللبناني، الذي لم يعد ينافس على مستوى الاحترافية، ولا ينتج برامج تجذب الجمهور، ولا يقدّم مادّة ذات قيمة، اصبح ــــ أكثر فأكثر ــــ مضطرّاً للاعتياش من تنفيذ الأدوار السياسيّة لمن يدفع، و«الموسم» عنده هو مثل هذه المناسبات). الحادثة التي تختصر كلّ ما جرى كانت حين «طرد» أحد المذيعين ضيفه على الهواء، لأنّه ردّ على مسؤولٍ سعوديّ وأهانه (بعد أنّ هدّد المسؤول الشعب اللبناني، وتوعّده بالحرب، وصنّف من سينجو منه ومن سيُعاقب، ثمّ انتقل لإهانة محاوريه). عندها، ردّ الضيف على المذيع بسؤالٍ، هو الشيء الوحيد الحقيقي الذي قيل طوال تلك الليلة: «يا فلان، كم قبضت؟»، ليبدأ هنا «العرض اللبناني» والإعلامي يصيح بأنّه فوق مثل هذه الأمور، وأنّه أشرف من الشّرف (إن كنت لا تملك خبرةً سابقة في التّعامل مع اللبنانيين، واستمعت لتوصيفهم لأنفسهم، فهم بالفعل قادرون على خداعك). الطريف هو أنّ «الاتّهام»، في هذه الحالة، لم يكن اتّهاماً، ولا هو موضوع نقاشٍ واشاعات. القناة المذكورة «قبضت» بالفعل من السّعوديّة، وقد شُرح كلّ ذلك بالتفصيل في ويكيليكس، وأصبح جزءاً من الأرشيف والتّاريخ، ولا تمحوه «وصلة شرف» استعراضيّة، بل ونعرف بالضّبط كم دُفع ومتى ومقابل ماذا.

هذا يأخذنا الى السّؤال الأخلاقي عن دور الإعلام في بلدٍ كلبنان. كان لديّ صديقٌ يحمل احتقاراً خاصّاً للإعلام وللصحافيين، ويعتبر أنّ المهنة، بنيوياً، فاسدة وتنتج أشخاصاً رديئين. تسأله «لماذا؟ هل لأنهم فاسدون؟»، فيجيب بأنّ الموضوع لا علاقة له بـ«الفساد»، ولا كلّ الفساد يتشابه. قد تجد موظّفاً، مثلاً، يتلقى مالاً مقابل تسيير معاملة، ولكنّه لن يقبل بأن يتورّط في عملٍ يؤدّي الى موت أو أذيةٍ أو اغتصاب. قد يمارس الانسان «العادي» الفساد ولكنّ يظلّ لديه سقفٌ وموانع. حرمة الدّمّ، مثلاً، راسخة في كيان أكثر النّاس، في الدّين والأخلاق والعرف ومن أي زاوية تناولتها؛ فكرة أنّ العمل الذي يؤدّي الى أذية أناسٍ وقتلهم هو حرامٌ مطلق، لا تتورّط فيه. الصحافي، كالسّياسي، لا مانع لديه من الخوض في حرمة الدّمّ، وتنفيذ أوامر يعرف يقيناً ومسبقاً أنّ في آخرها دماً وضحايا، ولهذا فإنّك يجب أن تتعامل معه دوماً بحذر، وتفهم أنّه شخصٌ خطير وقادرٌ على الأذى، وقد لا يملك الموانع والأخلاقيات التي تتوقّعها في باقي التعاملات الانسانيّة.

 

14 آذار وأعداؤها

 

لمن يعتقد أنّ 14 آذار قد ماتت واندثرت، فإنّ خطاب استقالة الحريري (الذي أكّد على مركزيّة «ثورة الأرز» والعودة اليها) يثبت أنّ 14 آذار، كالصهيونيّة، هي فكرةٌ وحالة وجودية لا تموت، هذا المزيج بين القطريّة والطائفية والتبعيّة الكاملة للغرب والحقد الشامل على أي حركة مقاومة، مع كلامٍ منثورٍ عن الحوكمة والديمقراطية وسيادة الدولة، هذه «العقيدة» هي شكل العربي كما يريده النظام العالمي في هذه الحقبة من الزّمن. ولهذا السّبب ستجدها باستمرارٍ، وبنسخٍ متشابهة في لبنان والأردن ومصر والعراق، وستسمع شعاراتها مجدّداً كلّما صبّ استثمارٌ غربي وخليجي في نخبة بلدٍ ما.

فكرة الحرب على ايران والعداء لها، الذي أصبح الشعار الناظم لهذا المحور، ليس مستغرباً. لدى الباحث الفلسطيني محمّد المجدلاوي نظريّة عن أنّ فكرة «ايران العدوّ» كانت، في المحصلة، سرديّة «مناسبة» للنظام العربي، وهي قابلة للتسويق في جوّ كامل من الهيمنة الإعلاميّة. القصد هنا هو أنّ المواطن العربي، الذي يعيش في واقعٍ صادمٍ ومتغيّر ولا يفهم أسباب ما يجري حوله، قد يتمسّك بفكرة أنّ ايران، حقيقةً، هي سبب مشاكله وهي الجوهر الخفي الذي يقبع خلف كلّ شرٍّ يتهدّده. هذا ليس لأن الحجّة منطقيّة ومقنعة، بل لأنّها تقدّم تفسيراً ما لما يجري، وهو لا يملك غيره (للتدليل على أثر الهيمنة، يكفي لو أنّ قطر اتّخذت موقفاً سياسيّاً مغايراً في السنوات الماضية، لكانت «الجزيرة»، بسهولةٍ، قد جعلت فكرة أن ايران وحركات المقاومة هي ما يهدّدنا، أمام الجمهور العربي، مسخرة).

ولكنّ المسألة تذهب الى ما هو أبعد من ذلك. فايران هنا هي توريةٌ لما هو أبعد، واختزالٌ في بلدٍ لمخاوف النّظام العربي و«14 آذاره». نظريّة أن ايران، الدولة الصغيرة المحاصرة المحدودة الإمكانيات، هي من «يخرّب» الشرق الأوسط ويسبب كلّ المتاعب لأميركا وأتباعها فيه، هي وهمٌ لا أكثر. ونظريّة أنّ طهران قادرة، بكبسة زرّ، على خلق ميليشيات ضخمة وفعّالة، ورجال فدائيّين وأوفياء، هي هروبٌ من الحقيقة (والّا، فلماذا لا تفعل اميركا والسعودية والامارات ذلك؟ ولماذا حين تستثمر اميركا في بناء ميليشياتٍ في بلادنا، وتصرف المليارات وتقدّم التدريب والتجهيزات، لا يخرج من الجهة الأخرى سوى مهرّجين ومرتزقة؟). القصّة هنا هي أنّ الميتا ــــ سردية عن ايران تجنّب النظام العربي الاعتراف بالصراع الاجتماعي الحقيقي الذي يجري في بلاده، وشعبه الذي يريد أن يقهره، عبر تحويل الأمر الى «صراعٍ خارجيّ»، وتصبح القوة الاجتماعية التي يحاربها في لبنان والعراق واليمن (وأيّ مكان) مجرّد «أدواتٍ ايرانية»، لا تاريخ لها ولا شرعيّة.

المقاومة اللبنانيّة، التي تقلق مضاجعهم من الرياض الى تل ابيب، هي ما عليه اليوم بفضل سنواتٍ طويلة من الصّراع، وظروفٍ قاسية صقلتها منذ الثمانينيات والتسعينيات، وصولاً الى الحرب القائمة عليها اليوم. اليمنيّون الذين يقصفون الرياض، ويصمدون ويتحمّلون ما لا يطاق، لم يخرجوا فجأةً من طهران، بل هم نتاج عقودٍ من الاضطهاد والتهميش، وأكثر من عقدٍ من الحروب المتواصلة في وجه خصومٍ شرسين ولا يرحمون. بالمعنى نفسه، المقاومة في فلسطين اليوم ليست ندّاً للجيش الاسرائيلي بفضل صواريخ الـ«كورنت» والتدريب والدّعم الخارجي وحده، بل أساساً بفضل التجربة والحصار والعمل السرّيّ والمواجهات والتضحيات التي قدّمها من اختار طريق القتال. هذه الأحداث هي التّاريخ الفعلي لبلادنا وخلفية ما نشهده اليوم، حتّى لو لم تكن قد سمعت بها في وقتها، ولم تعرف بحزب الله حتّى سنة 2000، ولم تسمع بـ«أنصار الله» حتى السنة الماضية. في الواقع، حقيقة أنّ طهران ودمشق كانتا، في العقود الماضية، العاصمتين الوحيدتين ــــ من بين كلّ الأقربين والأبعدين ــــ اللتين استمرّتا في دعم حركات المقاومة، وتسليح المهمّشين والضعفاء وتقديم نموذجٍ لهم وايديولوجيا، هو شهادةٌ اضافية على نضال هذه الشّعوب والطّريق الصعب الذي شقّته، وليس انتقاصاً لها. لهذا السّبب ايضاً، فإنّ اختلافنا مع «14 آذار» وأشباهها ليس اختلافاً في الموقف الواجب اتخاذه أو في المبادىء والأخلاق، بل هو قبل أيّ شيءٍ آخر اختلافٌ على التحليل والتأريخ، وعلى النظرة الى شعبنا وماضينا.

 

خاتمة: نظرية الزومبي

 

في أفلام الرّعب الغربيّة نسق يتكرّر حين تكون القصّة عن انتشار فايروسٍ قاتل، أو وباء «زومبي» يحوّل الناس الى وحوشٍ ويهدّد بتحطيم النظام وهدمه (أفلام الرّعب الأميركية، بالمناسبة، تحمل تاريخياً جرعةٍ كبيرةً من النّقد السياسي، وراديكالية لن تجدها في انتاجات «هوليوود» الكبرى، تحديداً لأنّها أفلام درجة ثانية وثالثة، هزيلة التمويل وقليلة الارتباط بالمؤسسة). التيمة المتكرّرة في فيلم الرّعب هو أنّ هذا التهديد يظهر وينمو في «الزوايا المظلمة» التي يهملها النظام ويهمّشها (الغيتو الفقير، تجارب عسكرية تم التعتيم عليها ودفنها، بناية فقيرة يقطنها المهاجرون الذين لا يملكون أوراقاً، الخ)، قبل أن تظهر الى العلن وتنتشر وتغزو العالم. هذا التشبيه قد ينفع لمن لا يرى غير ايران في كلّ مكانٍ حوله: القوى التي تخيفك اليوم قد كبرت واشتدّ عودها في «الزوايا المظلمة» التي خلقها النظام العربي وحاول طمسها؛ هم الذين تمّ تجويعهم في حصار العراق، وتُركوا فريسة للصهاينة في جنوب لبنان، وهم قد صمدوا وتعلّموا من التجربة المريرة ويدخلون الميدان اليوم ولهم بأس، وإن كنت قد تفاجأت بهم فذلك لأنّك لم تعرف، طوال سنين، اين يصنع تاريخ بلادك.

في وسع الحكومة السعوديّة أن تعلن الحرب علينا، وأن تملي علينا الشّروط والتهديدات، وستجد قطاعاً واسعاً من سياسيّي لبنان ونخبته الى جانبها في ذلك، ولو بثمن تحويل بلدهم الى ركام، ولو كانوا أوّل ضحايا جنون الرّياض، فالرهائن والمرتهنون لا رأي لهم. ولكنّ المثير هو أنّ يختار آل سعود هذه المرحلة بالذات لتهديدنا، كأنّ في وسعك أن ترجع التّاريخ الى الوراء، وكأنّ من لم تخفه اسرائيل واميركا، وحاربها وأرهقها، سيتراجع وينهزم أمام محمّد بن سلمان.