هل يُعقل أن تجري كل هذه “الحركات” الدولية والإقليمية المتصلة بالوضع في سوريا من دون أن تكون نهاية الحرب السورية قد بدأت؟ وهل سنسمع بعض النخب السورية ولا سيما المقيمة في الخارج، موالاة ومعارضة، تدعو إلى وقف الحرب في سوريا بأي ثمن قبل أن تصدر “الأوامر” لها بقول ذلك؟
هناك رقصة عالمية دائرة حول النار السورية تُنبئ بحقبة جديدة مختلفة بعد سنوات انفجار في بلد كسوريا فاجأ عنفُها بضراوته وتدميريّته والكائنات السياسية والعسكرية الوحشية التي أفرزها كلّ من عرفوا بعض الحروب الأهلية السابقة.
تخطّت المذبحة السورية عنف الحرب الأهلية اللبنانية، الحربُ اللبنانيةُ حربٌ انشقّ بشرُها وأرضُها وقواها عمودياً وأفقياً وأسطوانيّاً وتذرُّرِيّاً… مع ذلك فاقتها الحربُ السوريّةُ هولاً واتساعاً عندما انفجرت ولا تزال في سبع مدن دفعةً واحدة فحلّ بالسوريّين غضبٌ توراتي كالذي حلّ بالمصريين قبل بضعة آلاف سنة ولكن في سوريا كان الآلهة الحانقون أكثر ولم يكن إلها واحدا.
راقبوا في قلب نيران الحرب: الحرب في سوريا بدأت بالنهاية. بدأت بالنهاية في … المجر وصربيا والنمسا ومقدونيا حيث إكزودس اللاجئين السوريين والحجم الضخم الفريد عن كل أزمات اللاجئين الآخرين الآتين من بلادٍ تعيسةٍ أخرى جعلا سوريا تبدو وكأنها أوروبية في الأسابيع الأخيرة. ربما الآن نفهم، ما حاول مفكِّرون متوسِّطيّون أن يُفهمونا إياه في القرن العشرين في لبنان وسوريا ومصر، وهو أن سوريا جارة متصلة بأوروبا لا عبر البحر المتوسط فقط بل عبر البر وهذا ما جعلها سابقا ولاية في الامبراطورية الرومانية.
شيء ما “روماني” بمزيج الجغرافيا والبشر جعل أوروبا حسّاسة إيجاباً وسلباً بصورة خاصة للإكزودس السوري. ومن حسن الحظ أو ما تبقى من حظ السوريين أن أوروبا الغربية تبدو الآن وكأنها تكتشف حاجتها إلى وقف الحرب في سوريا مع إعلانها أنها تواجه “أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية”.
أوروبا في الواقع تكشف وتكتشف:
تكتشف خطر الانفجار السوري وتاليا العراقي من حيث انفراط عقد تركيبات سكانية عريقة (وبالمناسبة انقراض الأقليات وهروب شرائح كثيرة من الأكثرية يتم حتى داخل العراق في مناطق محسوبة أساسا من بلاد الشام التاريخية وتحديدا الموصل). ووصول ذلك إلى عقر دارها بشكل متلاحق في العامين الأخيرين. لكن أوروبا في آنٍ معا تكشف حاجتها إلى أعداد من العمال غير المهرة، أي غير المتخصصين. المتخصّصون يذهبون للخارج عموما عبر طلبات يقدِّمونها في السفارات أما غير المهرة فهم اللاجئون الذين نسمع عنهم الآن على حدود وأراضي أوروبا الشرقية والجنوبية.
المدهش في حصيلة رد الفعل الأوروبي أن الصحافة الأوروبية، بما فيها الألمانية، كشفت هذا “السر” وهو حاجة دول مثل ألمانيا وفرنسا والسويد إلى أيدي عاملة تستطيع أن تدخل سوق العمل بتدريب حد أدنى تموّله الحكومات والشركات العملاقة. صحيح أن أوروبا مثل كندا والولايات المتحدة تعج بجيل جديد من شباب الكفاءات المتخصِّصة في العالم الثالث هاجرت إليها ولا تزال، غير أن من يجري الحديث عنهم الآن وتستعد أو بدأت دولٌ مثل ألمانيا باستيعابهم هم عمال غير مهرة.
هاك نماذج من بعض الكتابات التي صدرت أخيرا.
مجلة “دير شبيغل” المرموقة في 27 آب الماضي كتبت أن “ألمانيا تحتاج إلى ما هو أكثر من أكاديميين متخصِّصين. إنها تحتاج إلى أفراد مدرَّبين بمؤهلات متواضعة وحد أدنى. حوالى مليون وظيفة استُحدثت للأجانب في السنوات الأربع الأخيرة في مجالات لا تتطلّب تدريبات رسمية. من مساعدي الممرضين إلى المطاعم والزراعة. عدد الوظائف الشاغرة بلغت ستماية ألف وظيفة في شهر أيلول المنصرم وحده”.
في “الموند” الفرنسية في الثاني من أيلول الجاري يقول تيبو غاجدوس الباحث في المركز الوطني للأبحاث العلمية أن أكلاف استقبال اللاجئين السوريين ضئيلة حتى بالنسبة لدول ضعيفة النمو ومعدل دين مرتفع كفرنسا. لأن عدد اللاجئين المستَقبَلين صغيرٌ قياسا إلى السكان وهم من الشباب الذين يريدون العمل وخلق الثروات ورفع المستوى الاجتماعي لأطفالهم…
أما تييري ميسان المدوِّن والناقد الراديكالي ومؤسِّس “شبكة فولتير” فكتب في مقال تحت عنوان “أزمة اللاجئين المفتعلة” أن ثلثي اللاجئين من الرجال، وأعمارُهم حسب تصريحاتهم تتراوح بين 18 و34 عاما مما يجعلهم قوة عمل مطلوبة لأرباب العمل الألمان.
هل هي الدينامية الخفيّة للاتفاق النووي التي تفتح باب البحث ولو الصعب والطويل ولكن الجدي في كيفية وقف الحرب السورية وبالتالي تسوية الأزمة السورية؟ ما الذي يجعل أوروبا تُوقِّت اعترافَها بالحاجة للعمال غير المهرة، أي لممارسة المهن الأقل أَجراً، الآن فيما هي تمارس هذه السياسة الضمنية منذ عقدين وسبق أن مارسَتْها بعد الحرب العالمية الثانية مع العمال الأتراك والجزائريين والمغاربة؟ أو هل انتبهت أوروبا الغربية بقيادة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا إلى مصلحتها المستجدة في وقف الحرب السورية وامتداداتها العراقية التي شجّعت بل أفرزت موجات اللاجئين التي باتت تحتاج إلى تقنين؟
هل سنسمع بعض النخب السورية ولا سيما المقيمة في الخارج، موالاة ومعارضة، تدعو إلى وقف الحرب في سوريا بأي ثمن قبل أن تصدر “الأوامر” الدولية بقول ذلك؟
وعليّ أن أكرِّر هنا ما كتبْته في المقال السابق وهو أن النهاية الأخلاقية لأي حرب، لا تعني نهايتها السياسية أو العسكرية ولكنها تعني انتهاء أي مبرّر قِيَمي لها وتعني تحوّلَ كلِّ مشاركٍ فيها يدعو لاستمراريتها إلى “مجرمِ حربٍ” لا بالمعنى القانوني بل بالمعنى الأخلاقي. أكان عسكريا أو سياسيا، موالياً أم معارضا، حليفاً أو عدوا، محرّضا أو منظِّماً.