في الجولة المقبلة، ستقع مفاجآت أكبر. الجميع بات في الجو. وأمام الطبقة السياسية أن تتصدَّى للتغيير بإحدى طريقتين: إمّا بالتمديد للمجلس النيابي مجدداً، وإمّا بالتمسك بقانون الـ 60 الذي يُعيد إنتاج الطبقة إيّاها من دون «أضرار كبيرة». ولكن، هل تمتلك هذه الطبقة حرّية التصدّي للتغيير؟ أم أنّ هناك قوى خارجية فاعلة تدعم التغيير في لبنان، ليكون جزءاً من شرق أوسطٍ يتغيّر بكامله؟
أوّل صدمة حقيقية شهدتها الانتخابات البلدية لم تكن في 8 أيار، عندما حصلت لائحة «بيروت مدينتي» على ما يقارب الـ 40 في المئة من الأصوات، وعجزَت القوى السياسية المتحالفة عن التجييش لإنعاش لائحتها.
الصدمة الأولى كانت في أنّ القوى السياسية قرّرت بشكل مفاجئ، خارج السياق التأجيلي السائد، أن تجري الانتخابات البلدية في موعدها، على رغم إعلان العديد من هذه القوى نفسها، صراحةً، عن رغبتها في التأجيل والتمديد، كما هو واقع الحال في الانتخابات الرئاسية والنيابية.
قبل الانتخابات البلدية بأسابيع، أبلغَت قوى سياسية أساسية، أبرزُها «المستقبل» والنائب وليد جنبلاط الرئيس نبيه برّي برغبةٍ في التأجيل. وفي المجالس الخاصة، جزَم بعض المعنيين بأن لا انتخابات بلدية في موعدها، لأنّ الرافضين لها كثيرون وأقوياء. لكنّ الجميع فوجئ بأنّ تحضيرات الوزير نهاد المشنوق «لم تكن مزحة». وهذا ما وتَّرَ الأجواء بينه وبين جنبلاط.
البعض يقول: صدَر أمرُ عمليات خارجي للقوى المحلية بالانصياع لقرار تجديد السلطات المحلية، ففَعلت. وهذا يعني أنّ البلد ممسوك تماماً، وأنّ اتّجاه التطورات فيه مضبوط. وهذا الأمر يدعو إلى الاطمئنان أحياناً، لكنّه يدعو إلى القلق أيضاً.
فالانصياع للخارج قد يدفع الطبقة السياسية إلى الانضباط والتزام المواعيد الديموقراطية. لكنّ هذا الانصياع قد يكون السبب في تفجير البلد عندما تكون مصلحة القوى الخارجية استخدام لبنان ساحةً للتفجير. وهذا ما يحصل غالباً.
إنتهَت الانتخابات وأفرزت وقائعَ مذهلة في البيئات الطوائفية كلّها:
1- عند السُنّة، صدمة للحريري في بيروت وطرابلس، ولكن أيضاً صدمة لخصومه، وعودة إلى التنوُّع الذي كان قائماً قبل الحريرية السياسية. ولا يبدو اللواء أشرف ريفي في صدد وراثة تيار «المستقبل» بكامله، على رغم أنّ الرجل حظيَ بتأييد سنّي في العديد من المناطق، حيث يجري التواصل معه أو الاستعداد لزيارته، من بيروت والبقاع وإقليم الخرّوب وسواها، للتعبير عن الدعم.
وأكّدت معركة طرابلس أنّ خسارة الحريري والطاقم السياسي التقليدي في بيروت- بالمعنى السياسي لا بالنتائج الحسابية- لم تكن صدفة بل كانت مدروسة بعناية.
2- في الوسط المسيحي، وفي معزل عن الخلاف في احتساب النِسَب: لِمَن الـ 60 في المئة ولِمَن الـ 40 في المئة، وكم تُمثِّل الأحزاب وكم العائلات، فالواضح أنّ الناخب المسيحي المتنوِّع أساساً يتمسّك بتنوُّعِه. وهذا لا ينفي أنّ قسماً كبيراً من الناخبين الذين صوّتوا في البلديات ضد «التيار الوطني الحر» أو «القوات اللبنانية» ينتمون سياسياً إلى أحد هذين الخطّين.
ولذلك، ثبُتَ أنّ معركة الانتخابات البلدية ليست «بارومتراً» لقياس شعبية الأحزاب المسيحية، وأنّ الانتخابات النيابية أفضل لهذه الغاية. فالأشرفية التي قالت «نعم» لـ»بيروت مدينتي» لم تكن بالضرورة تعلنُ خياراً سياسياً مناقضاً لخيارات الأحزاب المسيحية، وكذلك تنّورين والقبيّات!
3- لدى الشيعة يجدر التوقّف للمرّة الأولى عند نسبة من الناخبين تُقارب الـ 40 في المئة أو أقلّ قليلاً في بعلبك – الهرمل والجنوب، أرادت التغريدَ خارج سرب «الثنائي». وهذه النسبة أيضاً لم تعلن بالضرورة خياراً رافضاً لخطّ «أمل» و«حزب الله» السياسي. لكنّ التنوُّع يبدأ أوّلاً بخلق أطُر جديدة في الشكل، ثمّ تأخذ هذه الأطر بإحداث التغيير في المضمون.
عندما يتمّ النظر اليوم إلى ما أفرَزته الانتخابات البلدية يمكن التأكّد من أنّها كانت «بروفا» ضرورية، ولهذا السبب كان مطلوباً إجراؤها، ولم يكن مسموحاً بتأجيلها.
وبناءً على ما أظهرته الانتخابات البلدية، يمكن تفسير العديد من الظواهر التي بَدت مفاجئة في حينها:
– كيف انفجرَت موجة الفضائح التي أثارَها الوزير وائل أبو فاعور في شكل غير مسبوق في لبنان، ولماذا؟
– لماذا جرى افتعال أزمة النفايات وإطالة مداها الزمني شهوراً؟
– كيف استطاعت هيئات الحراك المدني أن تنتظم للمرّة الأولى بتغطية متكاملة و»تدكّ أسوار» الوزارات والمجلس النيابي، بعدما كان طموحها أن تجمعَ العشرات رافعين بعض الشعارات في زاوية ضيّقة، لبضع دقائق؟
– كيف تجرّأت القوى المدنية وشِبه المدنية والاعتراضية على خوض المواجهة الانتخابية، ونجَحت، ضد أهل السلطة في بيروت والبقاع والجنوب؟ وما أثرُ «الحِراك الريفي» في إنضاج عملية التغيير، في طرابلس ومناطق أخرى كبيروت؟
يبدو أنّ هناك ترابطاً بين كلّ هذه المظاهر. وبعيداً عن المثاليات والطوباوية، يمكن هنا التفكير بوجود تغطية متكاملة لكلّ عوامل التغيير الظاهرة، الفريدة من نوعها، وبوجود خيط رفيع يوصل بينها.
فالحراك الشعبي الذي أطلقَه «الربيع العربي» في كلّ دوَل المنطقة يصعب التصديق أنّه جاء عفوياً. وقد أثبتَت الأحداث أنّ «الربيع» أوصَل إلى غايات معيّنة أو في طريقه إلى تحقيق غايات أخرى. ولبنان ليس جزيرة معزولة عن التأثيرات ذات الطبيعة المماثلة، وإنْ يكن فيه مفهوم «النظام» مختلفاً عن المفاهيم السائدة في العالم العربي، بمعنى السلطة الفئوية الأحادية.
ستحاول القوى السياسية أن تتهرّب من استحقاق التغيير. لكنّ الانتخابات الآتية، أياً تكن ظروف تنظيمها، وأياً يكن القانون الذي سينَظّمها، ستفرز نتائج جديدة ولو من داخل القوى ذاتها. وللتذكير، إنّ ريفي ينتمي إلى «المستقبل»، وقواعدُه الأساسية «مستقبلية».
هذا الأمر ينسجم مع قوانين الفيزياء. فقبل 250 عاماً أثبتَ لافوازييه أنّ المادة الموجودة في الكون تتغيَّر من حالٍ إلى حال، لكن أيّ شيء منها لا يضيع خارج الكون، كما لا تضاف إليها مادة أخرى من خارج الكون. كما أثبتَ أنّ المادة المتولِّدة من تفاعل مادتين أخريَين يكون لها وزنُهما معاً. وهذان القانونان ينطبقان أيضاً في السياسة، ويتلاءَمان مع الواقع اللبناني.
كلّ ما يمكن للطبقة السياسية أن تفعله هو أن تهرب من شمولية القانون الأكثري إلى تعدّدية القانون النسبي، لتحفَظ رأسَها. وهذه المهمة كفيلة بتحقيق هذا الهدف مرحليّاً. ولكن، يصعب أن تعود الطبقة إياها إلى الإمساك بلبنان كما كانت تفعل سابقاً.
الأمر يذكِّر أيضاً بما حصَل في دول الجوار. ففي سوريا لن يعود الرئيس بشّار الأسد إلى الإمساك بسوريا كما كانت سابقاً. وكما حصَل التغيير في سوريا، سيتغيّر لبنان أيضاً. ويبقى الإطار الذي سيرسو عليه لبنان وسوريا وسائر دول المشرق العربي، والمرهون باعتبارات استراتيجية تراعي موازينَ القوى الناشئة في نصف القرن الفائت، ولا سيّما وجود إسرائيل.
الطبقة السياسية التي تحكّمت بلبنان على مدى قرنٍ من الزمن، أي منذ نشوء لبنان الكبير، استنفَدت طاقتَها وإمكاناتها كما استنفَد لبنان الكبير طاقته وإمكاناته. فعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء.
وتدركُ القوى السياسية في لبنان أنّ هناك حتميات تقترب ولا يمكن لأحد أن يواجهها، وأنّ هناك رؤوساً قد أَينعت وأن هناك من سيَقطفها، كما هي قطفَت رؤوساً ذات يومٍ مضى وانقضى!