خبير عسكري عراقي يقرأ في التحوّلات العراقية وانعكاساتها الإقليمية – الدولية
بداية النهاية لـ «داعش».. وتوازن في العملية السياسية بين السنّة والشيعة
الفيدرالية العراقية المرتقبة تمهّد لإقناع اللبنانيين بالسير باللامركزية الإدارية للحفاظ على صيغة الوحدة
يذهب خبير عسكري عراقي، كان يشغل منصباً عسكرياً رفيعاً حتى العام 2011 قبل أن يقتصّ منه رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي من خلال قانون المساءلة والعدالة (اجتثاث البعث)، إلى الاعتقاد بأن وظيفة تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق شارفت على بداية النهاية، بعدما تحقق الغرض السياسي منها. فالعراق شهد في العاشر من حزيران الماضي نقطة تحوّل مع خروج المحافظات السنّية عن سيطرة سلطة المالكي الذي اتسم أداؤه حيال أبنائها بالتهميش والقمع والحقد. انتفض أبناء المحافظات وكانت «داعش» قوة مساندة لا تتجاوز الـ900 عنصر، لكنها سرعان ما سيطرت على المناطق التي انسحب منها الجيش العراقي وانقلبت على القوى السنية المعارضة التي قادت الانتفاضة، وأخذت «داعش» بالتعاظم عدداً لتصبح، في غضون أسابيع، نحو 8 آلاف، ولتغدو على أسوار بغداد وتتمدّد شمالاً باتجاه أقليم كردستان.
لم تتحرّك واشنطن إلا حين تجاوز التنظيم الخطوط الحمر وأصبح على مرمى حجر من أربيل، حيث لدى الولايات المتحدة الأميركية «قاعدة بحركة»، وهي قاعدة مُنشأة باتفاق سري بين الأميركيين والأكراد وتضم 5 آلاف جندي وأسطولاً جوياً. وحين طرق «التنظيم» باب العاصمة وبات يُشكّل خطراً عليها وعلى المحافظات الشيعية، تحول إلى «وسيلة الضغط المطلوبة» لإعادة تصويب العملية السياسية في العراق التي انحرفت بفعل سياسات المالكي وسيطرة إيران على القرار العراقي ومقدرات البلاد. أفادت واشنطن - التي لديها أيضاً نحو 5 آلاف عنصر أميركي في سفارتها في بغداد - من «داعش» لبدء رعاية أميركية – بريطانية لمسار سياسي جديد، كان من نتاجه الوثيقة السياسية التي على أساسها جاء حيدر العبادي رئيساً للوزراء وتعهد بتنفيذها. البداية كانت تشكيل حكومة شراكة وطنية، تعيد الثقة إلى مكونات الشعب العراقي ولا سيما المكوّن السني. ويتم راهناً السير مرحلة تلو الأخرى بروزنامة العمل التي يسهر على تنفيذها الراعيان الأميركي والبريطاني بتفاصيلها الدقيقة. أنجز تعديل قانون المحافظات التي جُـيّر إليها الكثير من الصلاحيات، وبات مشروع تشكيل الحرس الوطني أمام مجلس النواب، والعمل جار لتعديل خمسة قوانين أساسية تتعلق بالنفط والغاز، المحكمة الاتحادية، الأحزاب، العفو العام، والمساءلة والعدالة، إضافة إلى العمل على تأليف لجنة نيابية لدراسة تعديل 63 مادة من الدستور لعرضها على الاستفتاء، وهي مواد من شأنها أن تتناول الصلاحيات السياسية وترسم معالم وشكل الفيدرالية الإدارية وتوسّع صلاحيات الحكومات المحلية في المحافظات.
وفي رأي المتابعين لعملية التحوّل العراقي أن المسار السياسي يسير بالتوازي مع المسار العسكري، وكلما تقدّم الأول، يحقق الثاني مزيداً من الإنجازات. والحصيلة حتى الآن تتلخص بأن تنظيم الدولة تراجع بنسبة 60 في المئة في المناطق التي سيطر عليها عقب حزيران الماضي. فالتحالف الدولي يتولى بشكل رئيسي توجيه الضربات الجوية في الشمال حيث يقصف «داعش» ويمهّد الطريق أمام الدخول البري للبشمركة. أما الحشد الشعبي الذي تحوّل اليوم إلى مؤسسة رسمية قانونية نُزعت عنها الصبغة الميليشياوية الشيعية وطعّمت بنحو أربعين في المئة بعناصر سنية، وأضحت تشكل نواة الحرس الوطني المقبل، فهو يتولى، إلى جانب جهاز مكافحة الارهاب وقيادة الرد السريع والشرطة الاتحادية والجيش العراقي والعشائر، مهمة تحرير مناطق الوسط، بمساندة جوية من التحالف الدولي. والمعركة المنتظرة، في قابل الأيام، هي معركة تحرير المثلث الذي يربط محافظات ديإلى وصلاح الدين (تكريت) وكركوك.
ما يدفع الخبير العسكري العراقي إلى الاعتقاد بأن «داعش»، بما جرى استخدامها كـ «وسيلة ضغط»، قد شارفت على بداية النهاية اقتناعه بأن المكوّن السني حقق ما كان يريده من مطالب وبالسقف العالي وبات جزءاً وازناً في العملية السياسية، وستحظى المحافظات بصلاحيات واسعة على المستويات الأمنية والاقتصادية والمالية والخدماتية مما سيسحب البساط من تحت «تنظيم الدولة» الذي لقي بيئة حاضنة له في المحافظات السنية نتيجة رفض أبنائها للممارسات القمعية والواقع المتردي الذي كانوا يعيشونه في ظل حكم المالكي.
فالمسألة، في رأيه، ترتبط بشكل وثيق بمدى سرعة إنجاز روزنامة العمل السياسية والانتهاء من القوانين المطلوب تعديلها لتكتمل معها معالم التسوية. وتتراوح التقديرات في هذا الإطار بين شهرين إلى ثلاثة، وربما تمتد إلى أربعة في ظل الحاجة إلى عرض المواد الدستورية، التي ستعدّل، على الاستفتاء الشعبي.
تلك الفترة تحتاجها الوقائع الميدانية بدورها. ففي الأرقام المتوافرة لدى متابعين أمنيين، فإن لدى تنظيم «الدولة الإسلامية» 35 ألف مقاتل عربي وأجنبي بين سوريا والعراق، منهم 10 آلاف في العراق إضافة إلى نحو 80 ألف مقاتل عراقي يتمركزون بشكل أساسي في ثلاث محافظات هي: الأنبار حيث الثقل الأكبر، تليها نينوى (الموصل) ثم صلاح الدين، كما يتوزعون على أكمل الشريط الحدودي بين العراق وسوريا.
وإذا كانت تقديرات العسكريين عالية بالقدرة على استعادة تلك المناطق في زمن قصير، فإن مرحلة ما بعد تحرير تلك المناطق تتطلب أن تكون البنية الإدارية قد أنجزت، وكذلك تشكيلات الحرس الوطني بحيث ستلقى عليه مهام الحماية الأمنية وحفظ النظام وخطوات تثبيت سلطة الدولة، وهي مهمة تحمل في طياتها تحديات من نوع آخر، فالحرس الوطني، من حيث المبدأ، يتألف من 120 ألف عنصر يشكل الشيعة منهم سبعون ألفاً والسنّة 50، وثمة مخاوف حقيقة من أن تطغى المحسوبيات السياسية على عملية تأليف هذا الحرس، بحيث يتحول غطاءً شرعياً لمسلحي وأزلام وميليشيات الأحزاب السياسية والسياسيين ليس أكثر، الأمر الذي يُفرغ مضمون هذا الجهاز ودوره. فالفساد السياسي والاداري والمالي والأمني لا يزال السمة التي تطبع العراق، وثروات البلاد لا تزال تهدر، وميزانيات المحافظات لا تذهب لصالح تحسين مستوى الخدمات وتأمين رفاهية المواطن في إطار تطبيق مفهوم توزيع الثروة.
ما كان يمكن لإيران التراجع عن المالكي لولا لم يصبح تنظيم «الدولة الإسلامية» على مداخل العاصمة، وما كان يمكن للقوى الشيعية المتحالفة معها الاعتراف بأن محاولات الهيمنة على القرار العراقي وإقصاء المكونات الأخرى أدت إلى الانهيار الكلي للعراق، ولا بد تالياً من تصحيح الانحراف الذي حصل، لولا الشعور الحقيقي بالخطر الذي شكله «داعش» والضغط الأميركي للسير بمسار التصويب. هذا هو لسان حال كثير من العراقيين الذين يتخوفون من ضياع فرصة إعادة بناء العراق، ذلك أن الاتجاه السائد حالياً يهدف للوصول إلى الاتحاد الاختياري المقبول الذي تجسده ما يصفونه بـ «الفيديرالية الإدارية»، الشبيهة إلى حد كبير باللامركزية الإدارية التي ينتظر اللبنانيون تحقيقها، وفقاً لما نص عليه «اتفاق الطائف»، وهي فيدرالية لا تصل إلى مصاف الحكم الذاتي الذي يتمتع به الأكراد في «إقليم كردستان»، ذلك أن الذهاب نحو إقرار الأقاليم على أساس مذهبي سيؤول حكماً إلى تقسيم العراق، بين الأكراد والسنة والشيعة، وإن كان ثمة من يعتقد أن بناء الثقة بين المكونين السني والشيعي يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، وهي عملية قيد الاختبار.
المتفائلون يرسمون ربيعاً زاهراً للعراق بعد أن تكون «داعش» انكفأت من العراق إلى سوريا، لكن المتابعين للتطورات العراقية يرون أن ربيع العراق، إن أطل قد لا يدوم طويلاً، إذ أن بذور الحرب المقبلة كامنة في المناطق المتنازع عليها في محافظات كركوك ونينوى وديإلى وصلاح الدين بين الأكراد والسنة، والتي شملتها المادة 140 من الدستور ولم تحل.
مخاوف منطلقها الشعور بأن الأكراد يضخّمون دورهم، وحلم الدولة الكردية يدغدع مشاعرهم، والرغبة التوسعية تراودهم في ظل تمسك سنّي بعدم التخلي عن تلك المناطق، فيما المصالح الإقليمية لدول الجوار قد تلتقي لتحجيم هذا الدور!