IMLebanon

خلف العازل الأزرق

المشهد خلف الستارة الزرقاء في أقلام الإقتراع كان سورياليًا بإمتياز، فالمكان الصغير المعزول يفترض أن يكون بقدسية كرسي الإعتراف. أن يُشعر الداخل إليه منذ اللحظة التي تطأ قدماه فيه أنها ساعة الحقيقة والحسم، وأنه سيد نفسه ويمسك قراره بيده، ومحصن ضد كل الضغوط والمؤثرات الخارجية، وأن أمامه فرصة سانحة لا ينبغي هدرها، ومُقدم على خطوة من أهم الخطوات في حياته. فالإقتراع السري نظريًا من أهم الضمانات أن الإنتخابات ديموقراطية ونزيهة.

سوريالية المشهد أن الأمور لم تكن تجري على هذا المنوال، بل عكس ذلك تمامًا. الناخب كان يصل منهكًا  ومكبلًا بالقيود. دخوله الغرفة كان شكليًا وصوريًا وفارغًا من أي مدلول.  فالقرارات الفاصلة إتخذت في وقت سابق، خلف أبواب موصدة أخرى، وبذلك تحول تصويته إلى مسألة تنفيذية وليس تقريرية، وتحولت الستارة الزرقاء العازلة إلى شاهدة زور، عوضًا من أن تكون كما يفترض ساعة تعزف دقّاتها الصامتة نشيد التحرر.

فقد إقترنت الإنتخابات البلدية وأفرزت العديد من الدلالات النافرة، وفي مقدمها:

 – أن الناخب «البلدي» هو غير الناخب «النيابي». في الإنتخابات النيابية يصوّت اللبناني للخطوط العريضة فيما يصوّت في الإنتخابات البلدية للتفاصيل الدقيقة، خصوصاً في البلدات الصغيرة التي تشكل غالبية البلدات اللبنانية.

 في الخطوط العريضة أعني المبادىء والشعارات والطروحات الوطنية الشاملة ، وفي التفاصيل الدقيقة أعني العلاقات الشخصية والحساسيات. وقد وقعت القيادات الحزبية في مأزق الإختيار، وظهر ذلك بكل وضوح في التحالفات المتنوعة حينًا والمتناقضة أحيانًا  حيث كانت تتوافق الأحزاب في بعض المناطق وتناصب بعضها أشد العداء في مناطق أخرى، وأحيانًا مناطق مجاورة، ما أوقع مناصريها في الحيرة والضياع، وأدّى إلى تفتيت أصواتهم، فبعض البلدات، خصوصاً في محافظة جبل لبنان صوتت الأكثرية فيها إلى جانب لائحة حزبية معينة  في الإنتخابات النيابية إلّا أنها لم تستطع إيصال ناشط من هذا الحزب أو حتى مناصر أو مقرب منه  إلى رئاسة البلدية. وعلى هذه  الأحزاب واجب توضيح مواقفها الملتوية والمتلونة لمؤيديها أولًا، وللرأي العام عمومًا إذا كان لها تفسير آخر غير الميكيافيلية السياسية. 

 

الخدمات الإستنفاعية

 

• كانت الخدمات «الإستنفاعية» لاعبًا رئيسيًا في  الإنتخابات، بل اللاعب الأقوى، وأستخدم تعبير الخدمات الإستنفاعية للتمييز بينها وبين  الخدمات «النافعة». الأخيرة تُقدم للخير وللصالح العامين دون أية إلزامات وشروط، فيما أن الأولى خلافًا

لذلك، فإن من يُقدمها أشبه  بالذي يضع أمواله في حساب مصرفي ويتقاضى فوائد عنه ويحتفط برأسماله كاملًا، وبالتالي هي توظيف نفعي، المستفيد الإكبر منها في الواقع  ليس من تُقدم له وإنما من يُقدّمها. هذا النوع من الخدمات مذل لمن تُقدم لهم إذ تستغل عجزهم وحاجتهم، فتسلبهم أثمن ما عندهم، أي قناعاتهم وحرية قرارهم وإستقلاليتهم، بل كرامتهم وتلزمهم  بدفع الفوائد الباهظة مرارًا وتكرارًا و تحولهم بالتالي  إلى تعيين، وما يشبه ناخبين من  ذوي الإحتياجات الخاصة، فالخدمات الإستنفاعية هي  شكل من أشكال الرشوة وشراء الضمائر، بل أسوأ هذه الأشكال، لكن لا تطاولها بكل أسف القوانين النافذة. 

هذه الظاهرة غير معروفة في المجتمعات المتقدمة حيث تضمن التشريعات والقوانين النافذة عدم حصول شواذات مماثلة عبر توفير فرص العمل، وتوفير إعانات والتقديمات الإجتماعية والاقتصادية للعاطلين من العمل وضمان الشيخوخة وسواها من الإجراءات التي تصون كرامة الإنسان،  وبذلك  تحرر الناخب من الإرتهان والتبعية.

• «الحريات الإنتخابية» كانت متوفرة، لكن الإنتخابات لم تكن حرة، فالحرية الإنتخابية  لا تضمن وحدها الإنتخابات الحرة. ما يضمن الإنتخابات الحرة دون إنتقاص  هو توفر الحرية الإقتصادية وتحرر الناخب من سلطة المال. وقد كان المتمول أقوى من الناخب.

من هنا على الجمعيات غير الحكومية الناشطة في سبيل عدالة الإنتخابات ونزاهتها التنبه إلى هذه النواحي والتركيز على معالجتها معالجة جذرية بدءاً بإخضاع  سلطة المال لسلطة القانون  لتحقيق أهدافها بوصول ناخب حر إلى صندوق الإقتراع، عوضًا من التلهي بالقشور البيروقراطية.

• كان جليًا للعيان أن التحالفات الإنتخابية لم تقم على أساس المبادىء والبرامج المشتركة والرؤية الموحدة، وإنما تمت هندستها عن سابق تصور وتصميم على ضؤ المنافع المتبادلة دون أي إعتبار آخر.

• تبين أن إطلاق وصف إنتخابات عائلية أو إنتخابات عائلات كان توصيفًا خاطئًا، فمعظم العائلات كانت منقسمة على ذاتها، وهذا أمر جيد  وإيجابي إذ أن العائلية شكل من أشكال القبلية المتطورة، ويكفي لبنان إنقسامه الطائفي، و مؤخرًا إنقسامه الجهوي داخل البيت الواحد.

 لكن اللافت أن بعض العائلات التي كانت تعتبر ذاتها أنها أكثر رقيًا من سواها هي التي تصرفت تصرفًا قبليًا بإمتياز إذ إلتزمت كالنعاج الوديعة  بالقرار الذي إتخذه التافذ فيها دون أية مناقشة.

• يمنح قانون البلديات رؤساء المجالس البلدية صلاحيات وسلطات واسعة ويخولهم إتخاذ العديد من القرارات المهمة دون الرجوع بالضرورة إلى بقية الأعضاء، وهذا ما أدّى إلى إصابة البعض منهم، خصوصاً الحديثي النعمة بجنون العظمة، بدليل صورهم الضخمة التي علقت وغطت وحجبت  بإيعاز أو بموافقة ضمنية منهم، جدران المنازل، وعبارات الإطناب المبالغ فيها التي تضمنتها اليافطات المرفوعة تأييدًا لهم ،و كانت مثارًا للسخرية و التنكيت.

 

تذكّر أنك إنسان

•من المهم جدًا أن يكون المجلس البلدي متجانسًا.يبتعد عن المماحكات والجدالات العقيمة، ويتصرف كفريق عمل واحد كي يتمكن من تحقيق الإنجازات، لكن من المهم أيضًا أن لا يتحول إلى رجل واحد يختصر بشخصه كل الأشخاص الأخرين، أو إلى ما يشبه مجلس إدارة شركة يملك رئيس البلدية كامل أسهمها بحيث يصبح الاعضاء أشبه بموظفين وليس كممثلين لشرائح مجتمعهم، تنحصر مهمتهم برفع أيديهم. وبذلك تجري عملية سلب مضاعفة: سلب إرادة الناخب أولًا ثم سلب رأي العضو المنتخب المستكين ثانيًا. إن المعارضة البناءة داخل المجلس ضرورية لتصحيح المسار البلدي  ومنعه من الإنحراف، ومن تحول إجتماعاته إلى طقس من طقوس عبادة الشخصية،  وربما من المفيد تذكير رؤساء المجالس البلدية وأعضائها بأنه لدى عودة الفاتحين الرومان إلى روما بعد تحقيقهم الإنتصارات العسكرية  في الخارج كانت تجري لهم إحتفالات رسمية وشعبية ضخمة، ويدور الفاتح في عربة تقودها ثلاثة احصنة (ترويكا) أمام الجماهير الصاخبة وهي تهلل بإسمه و تشيد بإنتصاراته، و قد و قف إلى جانبه رجل يحمل إكليل الغار فوق رأسه و يقول له بين فينة وأخرى، و خاصة عندما بشتد الهياج و الصراخ: تذكّر أنك إنسان. فقد كان يخشى أن يجرفه إبتهاج الناس و حماستها إلى الإعتقاد في إطار التفكير الميتولوجي السائد في ذلك العصر  إنه من طينة غير طينة البشر وأصبح إلها في الأرض.

 

إنتفاضة صامتة

•أحدثت الإنتخابات شرخًا بل هوة بين قيادات بعض الأحزاب وقواعدها، وحدث في بعض المناطق ما يشبه إنتفاضة صامتة حيث لازمت نسب عديدة من الكادرات منازلها رغم نداءات قياداتها بتكثيف الإقتراع وثبت بطلان المقولة التي إعتمدتها «دعم التوافق و الوقوف على الحياد في حال التنافس»، ويخشى جدًا حاليًا أن يتكرر المشهد في الإنتخابات النيابية وتدفع الاحزاب ثمنًا باهظًا لهذا التوجه الخاطىء.  

• كما هزّت الإننخابات البلدية الإصطفافات و الإستقطابات التي كانت سمة أساسية في عدد من  الطوائف ، ففي الضاحية الجنوبية بالذات، عقر دار حزب الله ،أبصرت النور لوائح مستقلة  تنافس اللوائح التي توافق عليها الثنائي حزب الله  وأمل، وهي لا تناصبهما  العداء بالمطلق، وتؤيد المقاومة بصورة عامة ، لكنها ترى في الوقت نفسه أن المجتمع الشيعي أكثر تنوعًا، و ترفض الإحتكار الثنائي ، و تعطيل دورها ،و مشاركتها في التمثيل السياسي   و العمل الإنمائي.

في الواقع للطائقة الشيعية تاريخ حافل و مجيد و تأسيسي في العديد من الحركات القومية و الوطنية والتقدمية واليسارية والطليعية والتغييرية لا يمكن إختصاره بحزب فرد أو إستقطاب أو إصطفاف.

بروز اللوائح المستقلة على المسرح الشيعي أوحى أن الثنائي أمل- حزب الله ليس مجرد تحالف إنتخابي، و أن العلاقات بينهما أكثر عمقًا، بل  أقرب لأن يكونا وجهين لعملة واحدة، وأن الرئيس بري بما عرف عنه من كياسة وحنكة هو الذراع الديبلوماسية للمقاومة، واليد المخملية التي ترتدي القفاز، لا اليد الحديدية التي تضغط على الزناد.

مشاعر مشابهة كانت قد إنتابت العديد من المسيحيين المستقلين، خصوصاً الشبان منهم، لدى توقيع ورقة التفاهم بين التيار الوطني الحر والقوات،حين تصوروا عن خطأ أو صواب أن لامستقبل لهم في هذا البلد إلا إذا إنضموا إلى أحد الفريقين، و لم يبق لهم سوى الهجرة لتأمين العيش الكريم لهم.

وأختم بإنطباع أخير هو أن بعض الإنتصارات تحمل طعم المرارة وبعض الهزائم لها مذاق النصر، وبالقول للمرشحين الشرفاء الذين صمدوا أمام الإغراءات وثبتوا في مواقفهم ،و لم يحالفهم الحظ لكل الإعتبارات أعلاه : من الأفضل ألف مرة أن أن تكونوا خاسرين أقوياء من أن تكونوا رابحين ضعفاء، و أذكّرهم بقول المثلث الرحمات المطران بولس عقل بالرئيس اميل إده يوم وفاته ( إطال الله بأعماركم و أعمار منافسيكم): نعوش البعض عروشهم و عروش البعض نعوشهم .