عند الحديث عن أي مبادرة خارجية يَستذكر المراقبون مواقف بعض الاطراف ولا سيما «الثنائي الشيعي» الذي دعا قطباه الى وقف ترقّب اي حراك خارجي يتصل بالاستحقاق الرئاسي. فهو محطة لبنانية لا يشارك فيها اي طرف اقليمي او دولي. ولكن الوقوف على حركة الاتصالات بين الثنائي وفرنسا يَشي بغير ذلك، عدا عمّا ظهر من إصرار الحزب والحركة على رعاية الرياض لأي خطوة رئاسية. وعليه، كيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟
لن يكون صعباً على ايّ من المراقبين العودة الى مسلسل المواقف التي أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله التي اعتبرت استحقاق انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية على أنه مهمة لبنانية ليثبت حجم التحوّل في المواقف من هذا الاستحقاق والرهان الجديد على الاتصالات الخارجية وتجاوز ما يجري في الداخل. فالجميع يتذكر الدعوات المتكررة التي أطلقها بري على هامش مسلسل حلقات انتخاب الرئيس الـ11 لعقد طاولة حوار يُفضي الى التوافق على الرئيس، مشدداً أكثر من مرة على قاعدة انّ الحل داخلي. وكان ذلك قبل ان يحمل المسيحيين مسؤولية عرقلة انتخابه وصولاً الى مطالبته بكركي بدور ما في إدارة هذه المرحلة. وهو أمر أصَرّ عليه السيد نصرالله اكثر من مرة في دعواته عندما رفض الربط بين موقف الحزب والاستحقاق برمّته بما يجري من مفاوضات تقودها إيران في أكثر من اتجاه اقليمي ودولي.
لا يخفى على المراقبين انّ مُجمل هذه المواقف كانت قائمة قبل «وثيقة بكين»، كما أنها سبقت نهاية ولاية الرئيس العماد ميشال عون. وواكبت الحديث المُتنامي عن مسار الحوار السعودي ـ الايراني، وكذلك بالنسبة الى المفاوضات في شأن الملف النووي الايراني، والحراك الفرنسي شبه المتواصل في اتجاه السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بعد العقوبات التي فرضت على لبنان وصولاً الى المبادرة الكويتية التي هدفت الى إحياء الثقة بين لبنان وهذه الدول، والتي نجحت في التخفيف من حِدتها مطلع العام الماضي. ولكنها بمجملها لم تصل الى خواتيمها المرجوّة، فيما يعد الاستحقاق الرئاسي أبرزها ويتقدم على معالجة الوضع النقدي والمالي.
وعليه، يقول احد المراقبين المطلعين على كثير من كواليس الاستحقاق واسراره، ان ما يوحي به هذا الحراك المتعدد الجنسيات وما يمكن ان يؤدي اليه، لا يساوي في أهميته الطحشة الفرنسية التي قادها ماكرون في اتجاه مجموعة من الدول المؤثرة مُستنداً الى تفاهمات غير مسبوقة مع «حزب الله». وهي التي قادت باريس للدعوة الى اللقاء الخماسي الذي جَمعها مع كل من واشنطن والرياض والدوحة والقاهرة. وكان واضحاً انّ باريس خاضت مغامرتها الجديدة إنطلاقاً من قناة التواصل العلنية مع الضاحية الجنوبية. وعلى رغم من عدم التوصّل الى رؤية واحدة تجمع الأطراف الخمسة لحل المشكلة اللبنانية، لم يُثن القيادة الفرنسية عن استكمال مساعيها مع السعودية على خطين: الأول بهدف تعزيز عمل الصندوق الفرنسي ـ السعودي المشترك للمساعدات الانمائية والاجتماعية للنازحين والبيئة الحاضنة لهم. والثاني من اجل التفاهم على المرشح الرئاسي مع إعطاء الاولوية الفرنسية لمرشح الثنائي رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية رغم معرفتهم المسبقة بالمواصفات الاميركية والسعودية والقطرية التي تستبعد التفاهم على اي مرشح يدعمه «حزب الله».
وعند هذه النقطة التفصيلية تتوقّف المصادر العليمة لتكشف انّ التنسيق الفرنسي مع «الثنائي الشيعي» لم يكن مفاجئاً وقد سربته تزامناً مع «الخط الساخن» الذي كان مفتوحا مع طهران قبل ان يصطدم بما نتج من الازمة الاخيرة في ايران، وما شهدته من خضّات انعكست على علاقتها بفرنسا بعدما تحوّل فرنسيون موقوفون لديها عائقاً أمام مشاريع التفاهمات. ولكنها وعلى رغم من هذه العقدة لم تنقطع الاتصالات مع الثنائي الشيعي، وإن تأثرت قليلاً على مستوى العلاقة المباشرة مع الحزب فقد تَولّت عين التينة إدارة هذا الملف بكل جدارة.
ولذلك، تعترف المراجع الديبلوماسية انّ إصرار «الثنائي» على ترشيح فرنجية وتأكيده ان لا خطة «باء» تَلي هذا الاعلان، أعاقَ قوة الدفع الفرنسية ولكنها استمرت في تبنّي هذا الخيار حتى الأمس القريب وربَطته بصفقة كاملة تشمل رئاسة الحكومة كما تردّد. وتزامَن ذلك مع إهمال بقية المرشحين على قاعدة العرض المقدّم من جانب هذا الثنائي الساعي بإصرار غير مسبوق الى نيل الرضى السعودي على فرنجية قبل الانتقال الى اي محطة اخرى. وقد ترجم ذلك باستعداد «الثنائي» للحوار البنّاء في هذا الاتجاه والإستماع الى هواجس المملكة وطريقة تبديدها وتقديم الضمانات ليتحوّل فرنجية من «مرشح تَحد» الى مرتبة «التوافقي» للإيحاء أنه، في حال المباركة السعودية، ان يقود تحولاً جدياً لتعزيز التعاون مع السعودية وجاراتها والعالمين العربي والغربي، خصوصا بعد التفاهم الايراني ـ السعودي لإحياء العلاقات الديبلوماسية بينهما وتصفير المشكلات مع المحيطين بالطرفين وحيث توجد ساحة نزاع كانت قائمة مع طهران أو ايّ من أذرعها، والتي قد يستفيد منها لبنان بعد مراعاة مختلف الهواجس التي عطّلت مشاريع الحلول طوال العهد الماضي.
واستطراداً، وعلى رغم ممّا سمعه أركان الخلية الفرنسية من ملاحظات أصدقائها اللبنانيين لم تتخلّ باريس بعد عن نيتها برعاية الحوار بين السعودية و«الثنائي» من اجل فرنجية. ووسط تفسيرات محدودة، طرح سؤال جوهري قد تُفضي الاجابة عنه الى فهم هذا الموقف. فهل يعقل انّ الثنائي لا يريد اي اتفاق مع صندوق النقد الدولي ولا البنك الدولي ـ كما كشف رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» محمد رعد قبل أيام لمجرد رفضه مرشح الصندوق – إن سويت العلاقة مع الرياض لتكون بديلاً من اي حل يعطي الاميركيين بوابة الى الداخل اللبناني وليبقى اي حل مُرتقب تحت سقف «تفاهم بكين». والّا ما معنى عدم اقرار مجلس النواب لثلاث سنوات متتالية قانون «الكابيتال كونترول» وخطة التعافي واعادة هيكلة المصارف ليس لسبب سوى أنها من مطالب صندوق النقد الدولي المرفوضة.
الى ان تتوفّر الإجابة عن مجمل هذه الاسئلة، يمكن القول انّ فرنسا لم تتراجع بعد عن تفاهماتها مع «الثنائي» وأن زيارة فرنجية إليها خير دليل. وان صحّت المعلومات ان هناك من دخل على الخط في اللحظات الفاصلة بين زيارة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى باريس وزيارة فرنجية لتعطيل مفاعيل زيارة الأول والإصرار على الحوار مع السعودية عبر القناة الفرنسية أيّاً كانت الكلفة المقدّرة على الحزب والحركة ـ فإنّ ذلك يبقى الرهان قائماً – على عكس ما أعلن – على التفاهمات الخارجية وسبل ترجمتها داخلياً وما وجود الموفد القطري في بيروت سوى دليل إضافي على انّ الحل لن يولد من الداخل.