لم يكن مستغرباً استمرار النقاش حيال ترددات «وثيقة بكين» الخاصة بإحياء العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وإيران على الوضع في لبنان، لكنّ مراجع ديبلوماسية عربية وغربية التقت على الدعوة الى ضرورة التريّث لبعض الوقت لفهم مسار العلاقة بينهما، والتثبّت من قدرتهما على تنفيذ ما تعهّدا به خلال مهلة شهرين مخافة ان ينطبق على اللبنانيين المثل القائل «طالِب الشيء قبل أوانه عوقِب بحرمانه». وعليه، كيف يمكن مقاربة هذه المعادلة؟
إسترسل اللبنانيون في تفسير الاتفاق بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية برعاية جمهورية الصين الشعبية ومدى انعكاساته على المنطقة عموماً والساحة اللبنانية خصوصاً، بعدما اعتبرت بقدرة قادر ومن دون اعتراف أكثرية اللبنانيين واحدة من ساحات المواجهة بين الرياض وطهران. مع الإشارة الى أنه لا يمكن إغفال أدوار اللاعبين الآخرين ومدى تأثيرها على مجريات التطورات، لا سيما ما يتصل منها بالاستحقاق الرئاسي الاكثر إلحاحاً وإيلاماً، في ظل العجز المتمادي عن تكوين الأكثرية النيابية القادرة على الحسم في مراحله الدستورية وحجم التعقيدات المحيطة به بعدما شملت مختلف وجوه الاستحقاق.
وبناء على ما تقدّم، تلاقت مراجع ديبلوماسية عربية وغربية على الاعتراف بأنّ تفكيك اي من الازمات اللبنانية يستدعي البحث عن الآلية التي تسمح بعبور حقل من الالغام المتنوعة، وتجاوزها بأقل الخسائر الممكنة، خصوصاً انّ المرحلة تحتاج الى شلة من رجال الدولة المفقودين، ممّن يُتقنون قراءة رزمة من الألغاز المتشابكة بخطوة تشكّل مدخلاً إجبارياً الى مرحلة تفرض وضع جدول أولويات بالعقد المستعصية والمتناسلة على اكثر من مستوى سياسي ودستوري ومالي بعدما تعددت الاجتهادات والفتاوى التي استنسخت على قياس المواقف المتناقضة والقاصرة عن بلوغ مرحلة القواسم المشتركة التي يمكن ان يلتقي حولها اللبنانيون.
ليس فيما سبق وما توحي به التعقيدات أي جديد، لكن التوصّل في العاشر من الجاري الى الاعلان عن «وثيقة بكين» بين الرياض وطهران دفعَ اللبنانيين الى استعجال البحث عن تردداتها المحتملة على الوضع في لبنان بمجموعة من السيناريوهات الاستباقية الغامضة التي لا تستند الى معطيات ثابتة يمكن الانطلاق منها لنصرة أي نظرية من النظريات التي تعددت، كما حفلت بكثير من الفوارق الكبيرة بما حملته من تناقضات نتيجة اتّكاء أصحابها الى ما يرضي أمنياتهم والنهم الكبير من رغباتهم قبل التمعّن في مضمون التفاهم الذي تم التوصل إليه وخلفياته وحجم الضمانات المتوافرة لتطبيقه قبل البحث في ما يمكن ان يؤدي إليه على أكثر من ساحة يتبادل فيها الطرفان كل اشكال المواجهة.
وبناء على ما تقدّم من ملاحظات، فإنّ المنطق يدفع الى الإشارة الى ما نَص عليه الاتفاق بين الطرفين الذي سيقود الى إعادة التمثيل الديبلوماسي وفتح سفارتيهما وممثلياتهما في خلال مدة أقصاها شهرين، حددها الاتفاق في مداها القصير للتثبّت من مدى التزام الطرفين بـ«احترامهما سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية». على ان يتقدم لقاء سيعقد بين وزيري خارجية البلدين بغية «تفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما»، والعودة الى التزامهما بمجموعة من الاتفاقيات التاريخية التي يعود بعضها الى عقدين ونصف من الزمن بدءاً بـ«اتفاقية التعاون الأمني» بينهما، الموقّعة في 17 نيسان 2001، و«الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب»، الموقّعة في 27 أيار 1998. عدا عن حرص الأطراف الثلاثة بما فيها راعي الاتفاق «على بذل كافة الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي».
وانطلاقاً من هذه المعطيات وما عداها من تفاصيل تلك الإتفاقيات وما تفرضه من تغييرات كبيرة بالسرعة القصوى في أداء القيادتين الإيرانية والسعودية وسلوكياتهما على أكثر من مستوى، تضيف المراجع عينها، ألا يجدر بالباحثين عن ترددات الاتفاق وما يمكن ان يعكسه على اي ملف او في أي ساحة مواجهة قبل التثبّت من مسار العلاقة بين الطرفين أيّاً كانت التفاهمات والضمانات التي تم تبادلها في جلسات المفاوضات الخمس التي عقدت في بغداد او في سلطنة عمان وما رافَقها وتلاها من لقاءات عُقدت على هامش عدد من المؤتمرات الدولية والإقليمية.
ولفتت هذه المراجع الى انّ ثمة من يعتقد وعن عِلم بكثير من التفاصيل التي انتهت اليها المفاوضات بين الطرفين انّ بعضاً منها قد تم التفاهم في شأنه في جلسات سابقة، لكنّ اي خطوة حاسمة لم يقم بها الطرفان قبل لقاءات بكين التي عقدت بين السادس والعاشر من آذار الجاري سوى تلك التي تحدثت عن الهدنتين الإعلامية والسياسية التي لاحَظها المراقبون في الفترة الاخيرة حصراً من دون رصد أي تقدم على مستوى حلفائهما في أكثر من دولة.
ولمَن يريد عيّنات من هذه الحالات غير المستقرة، ما عليه سوى رصد ما شهدته يوميات اليمنيين والعراقيين واللبنانيين التي تعكس نوعاً من التشنج الذي ما يزال قائماً، ولو بنسَب متفاوتة. فعلى وقع التمديد مرتين لوقف إطلاق النار الذي نعمت به اليمن طوال الاشهر العشرة الاخيرة لم تتوصّل الجهود الاممية وتلك التي عالجتها التفاهمات الثنائية لتخفيف الحصار المتبادل لبعض المدن والتجمعات السكنية التابعة لسلطة «القوى الشرعية اليمنية» وتلك التي يقودها «الحوثيون وحلفاؤهم». كما على الساحة اللبنانية وفي العراق وسوريا حيث لم تتوقف الحملات الاعلامية التي كانت سببا كبيرا في العقوبات الخليجية على لبنان في وقت رصدت حركة ديبلوماسية سعودية لافتة في كل من العراق وسوريا، خصوصاً بعد الزلزال المدمر الذي فكّك تلقائياً عدداً من أشكال الحصار المفروض على النظام السوري ومنشآته.
وبناء على ما تقدّم تنصح المراجع الديبلوماسية اللبنانيين الجاهدين الى رصد ردات الفعل المنتظرة على الساحة الداخلية الى التروي في إطلاق الاحكام النهائية، ليتجاوزوا لاحقاً ما تعبّر عنه النيات التي تبقى قاصرة دون التغييرات المحتملة. فالحملات الهادفة الى «التعبئة النفسية» لن تجدي نفعاً ولن تتجاوز «الجدل البيزنطي»، وتحديداً بالنسبة الى الاستحقاق الرئاسي قبل رصد اي تغيير مطلوب. وما زاد في الطين بلة انّ هناك من يعتقد انّ مجرد التفاهم الايراني ـ السعودي قد يفتح الباب على تفاهمات محتملة قبل ان ينتظر مواقف الأطراف الدولية المعنية، توصّلاً الى أي خطوة ايجابية تؤدي الى نزول البعض من سقوفهم العالية والى مستوى يُحيي الأمل في إمكان التفاهم على الاقل على مرشحين او ثلاثة لرئاسة الجمهورية في ظروفٍ تسمح بمبارزة ديموقراطية يمكن ان يشهدها المجلس النيابي المفتّت بين مجموعات من الكتل المتناحرة التي لم توفّر الاكثرية بالنسبة المطلوبة بشقيها لعقد الجلسة العامة وانتخاب الرئيس العتيد.
وما عدا هذه الملاحظات، تتمنى المراجع عينها على اللبنانيين التريّث، ولو لمرحلة قصيرة المدى، قبل حسم أيّ من النظريات المطروحة على قاعدة انّ «طالب الشيء قبل أوانه قد يعاقب بحرمانه».