لطالما نادى عدد من المُحايدين بضرورة التروي قبل أي محاولة لترجمة التفاهمات الاقليمية والدولية التي تَوّجها «تفاهم بكين» على الساحة اللبنانية قبل التثبّت من حصتها. كان ذلك قائماً في مواجهة من استعجلوا اعلان فوز المحور الذي يمثّلونه إلى أن ثَبت العكس. بدليل الفشل في فرض أيّ من الخطوات المستعجلة التي أرادوها. وعليه، طُرح السؤال: هل سقط هذا التفاهم قبل أن يجني لبنان منه شيئً؟ وما هو المَأمول في الفترة المقبلة؟
لم يكن سهلاً إقناع بعض القوى اللبنانية، خصوصاً تلك التي تنتمي إلى «محور الممانعة»، بضرورة الإحتفاظ بالحد الأدنى من الهدوء والتواضع في التعاطي مع بعض الاستحقاقات الداخلية وعدم استعجال البحث عن انتصارات قد تحققت لمجرد التفاهم الذي تم التوصل اليه بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية في بكين. وكأنّ مثل هذه الخطوة، على اهميتها، يمكن ان تغيّر من واقع الأمور في كثير من الساحات التي عانت من المواجهات التي كانت قائمة بين الطرفين وحلفائهما. وقد جنّدت لها مختلف أشكال الاسلحة التقليدية وغير التقليدية. وبنيت هذه النظرية بمعزل عن الحاجة الى الاخذ في الاعتبار أولويات كل من الطرفين والحاجة الى التصرف على اساسه، وليس بناء لرغبة هذا الفريق او ذاك مهما بلغت درجة تمثيله لهذه القوة او تلك وما يمكن ان يكون قد قدّمه من خدمات ضمنت التوَصّل الى هذه المرحلة المتقدمة لفرض شروطها على الآخرين.
على هذه الخلفية، تقول المصادر الديبلوماسية العليمة التي كانت على تماس يومي مع كل ما تقدم من خطوات، ان الدعوة الى التروي كانت من باب الحكمة التي على بعض الأطراف التحلي بها. وان من كان يعتقد ان في قدرته ترجمة الخطوات التي تضمن له تفوقه على الساحة اللبنانية ولم تنضج بعد، انّ عليه ان يحتسب حجم العقبات التي تواجه المراحل التنفيذية التي تم التوصل اليها ومراقبة أداء الطرفين للتثبت من صدق النيات وقدرتهما على القيام بما هو مطلوب منهما. فالعناوين التي تضمنها «تفاهم بكين» لم يكن من السهل تحقيقها في ظل التشكيك بصدق النيات المتبادلة. فالتجارب السابقة قدمت كثيرا من الأمثلة التي تتحدث عن إمكان سقوط كثير من التفاهمات في مفاصل عدة من مراحل التنفيذ. فليس من المنطقي القول ان الطرفين وحدهما قادران على إدارة الأمور في بعض الازمات وان هناك قوى داخلية وخارجية يمكنها ان تضع العثرات أمام بعض الخطوات المزمع القيام بها، فكيف اذا كان الطرفان يُحاكيان في خطواتهما قوى دولية عظمى لا يمكن التساهل بقدراتها التعطيلية ما لم تضمن مصالحها على مختلف المستويات.
وبناء على ما تقدم، أدّى استعجال البعض ترجمة مثل هذه التفاهمات على الساحة اللبنانية من موقع المنتصر الى اصابته بالاحباط والعجز. فاللجوء إلى لغة التهويل بما يمكن أن ينتجه الحوار السعودي – الايراني من تقاسم جديد للنفوذ في المنطقة لم ينفع، بدليل الفشل في فرض بعض الخطوات التي لا تراعي التوازنات القائمة في لبنان والمنطقة، والتي لم تستقر بعد على ما هو ثابت وعميق يمكن ترجمته على مختلف الساحات.
والدليل، قالت المصادر الديبلوماسية العليمة عينها، انّ «تفاهم بكين» قال بحياد الطرفين على بعض الساحات ومنها الساحة اللبنانية مثلاً، في انتظار أن يتوافق اللبنانيون على الخطوات التي تضمن لهم انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية واعادة تشكيل السلطات الدستورية فور انهاء حالة خلو سدة الرئاسة من شاغلها، وكل ذلك كان مطلوباً من باب نُصح اللبنانيين بانتظار التوصل الى حلحلة العقد الأكثر صعوبة، والتي لها الاولوية في حسابات الطرفين. وهو أمر وضعَ اليمن في مقدمة الاهتمامات السعودية من دون الاستعداد للتدخل في ساحات أخرى. كما بالنسبة الى اعادة ترتيب العلاقات الديبلوماسية وفتح السفارات بين البلدين، وهو أمر لم يكتمل لا على الساحة اليمنية ولا على مستوى إعادة التمثيل الديبلوماسي بين طهران والرياض بعد مرور مهلة الأشهر الثلاثة التي تلت التفاهم في 10 شباط الماضي. حتى ان الطحشة السعودية في اتجاه اعادة سوريا الى الحضن العربي التي ربطت بالخطوات الانفتاحية نفسها تعثّرت، ووصلت نظرية «الخطوة مقابل خطوة» الى الفشل الذريع الذي فرمَلَ تحسين العلاقات بين الرياض ودمشق بما لها من انعكاسات محتملة على الساحة اللبنانية، فرفعت من منسوب المخاوف على استقرارها وهدوئها بفِعل كثافة النزوح السوري وامكان ان تطول إقامتهم على أرضه في الشكل العشوائي غير المنظّم وكلفته التي لم تعد متوافرة بالحد الادنى المطلوب.
وعليه، فإنّ المراجع الديبلوماسية عينها، لم تكن قادرة على تجاوز بعض الحقائق التي شكلت عقبات حقيقية. فالعودة إلى ما شهدته سنوات المفاوضات بين الرياض وطهران التي استضافتها بغداد ومعها عدد من عواصم الخليج العربي ومنها عُمان والأردن قبل ترجمتها في لقاءات بكين، كان عليها التثَبّت ان كانت الازمة اللبنانية على سلّم أولويات الطرفين في ظل انشغالاتها بأزمات أكثر إيلاماً بالنسبة اليهما. والدليل أن اي ضمانات لم يستطع الطرفان تقديمها للبنان، لا بل بالعكس هناك من اعتقد أنّ لبنان بات من حصة محور الممانعة، وأن ما كسبته الرياض في اليمن وما نالته من ضمانات بعدم تكرار ما تعرضت له «منشآت أرامكو» كافٍ، وأن ليس لها أن تطالب بأي تنازلات في مناطق اخرى، ومنها لبنان.
وبدل إثبات العكس، فقد أوحى التردد السعودي خصوصا والخليجي عموما، تجاه ما يجري في لبنان، بصُدقية هذه النظرية. وان رفض البعض هذا التوصيف فإنه لا يمكنه تجاهل الفارق بين ما انتهت اليه السياسة الخليجية المعتمدة في لبنان وحجم العناية الايرانية به. فطهران تتصرف على اساس انّ لبنان هو احدى الساحات التي وضعت اليد عليها، وبنت فيها جيوشا تستخدمها منصة متقدمة ضد اسرائيل، مُدّعية سيطرتها على جزء من منطقة شرق المتوسط الذي يتسابق العالم في اتجاه ثرواته المكتشفة حديثاً. هذا عدا عن الواقع الاستراتيجي الذي يشكله موقعه في ظل النزاع الذي يتجاوز طرفي تفاهم بكين وحدهما، في ظل تعدد القوى المتنازعة على ساحة المنطقة وصولاً الى لبنان.
عند هذه المعطيات والمؤشرات السلبية بات السؤال المطروح: هل سقطَ تفاهم بكين قبل أن تبلغ نتائجه الايجابية لبنان؟ ام أن ما يجري يمكن ان يتحول أحداثاً عابرة وأن الفرج آت؟ وهل من مخرج يمكن أن يُجَنّب لبنان ما هو منتظر من انهيارات محتملة على اكثر من مستوى؟ وهل هناك قراءة ديبلوماسية مشتركة تدفع بأصدقاء لبنان إلى قراءة الواقع كما هو ومحاولة معالجته؟ أم انه سيبقى منطقة اختبار للنزاعات الدولية والى متى؟