IMLebanon

بيروت الحزينة حتّى الموت

 

 

ثمة ظواهر عدّة تستوقف الموجود في بيروت هذه الايّام بعدما مرّ شهران كاملان على الثورة الشعبية التي هدفها التخلّص من «عهد حزب الله» الذي بدأ فعلا في أواخر العام 2016 مع تمرير التسوية الرئاسية.

 

جرّ هذا العهد البلد الى الإفلاس ولا ينفع التلطّي بدفع ثمن ما حصل في السنوات الثلاثين الماضية بغية التهرّب من المسؤولية. هناك أمور كثيرة إيجابية وأخرى سلبية حصلت في السنوات الثلاثين الماضية، أي منذ التوصل الى اتفاق الطائف. كانت هناك عودة للحياة الى بيروت التي اعيد بناء وسطها. وصارت هناك طرقات تربط بالجنوب وغير الجنوب. وحتّى العام 1996، كانت هناك كهرباء. بعد 1992، عادت بيروت تجسّد ثقافة الحياة والجمع بين اللبنانيين من كلّ المناطق والطوائف والمذاهب والطبقات الاجتماعية. حدث ذلك على الرغم من وجود معاول الهدم التي استأنفت نشاطها منذ اليوم الاوّل لاغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005 وقبل ذلك في عهد اميل لحّود. لا تزال هذه المعاول تهدم بغية بلوغ الى الوضع الراهن الذي صارت فيه بيروت مدينة تحتضر.

 

لعلّ الظاهرة الاولى، التي لا بدّ من التوقّف عندها، حال الانكار لدى كبار المسؤولين، لمدى خطورة الازمة الاقتصادية ووالوضع المالي. انّها ازمة تهدّد وجود لبنان لا اكثر ولا اقلّ. ليست لدى هؤلاء المسؤولين أي فكرة عن ان مصير البلد على المحكّ في ظلّ شبه انهيار للنظام المصرفي الذي يمثل العمود الفقري للاقتصاد، بل شريان الحياة للبلد كلّه. للمرّة الاولى في التاريخ اللبناني القصير الذي عمره مئة سنة، لا يستطيع المواطن سحب أمواله من المصارف او القيام بتحويلات الى الخارج. اكثر من ذلك، سيتوقف قريبا نشاط كبار التجّار الذين لن يعودوا قادرين على تغطية قيمة ما يستوردونه بالعملات الأجنبية.

 

سيؤدي ذلك الى مزيد من البطالة في وقت هناك خلاف على شكل الحكومة الجديدة التي يفترض ان تضمّ اختصاصيين يعرفون في العمق الملفات التي يتعاطون بها.

 

من الطبيعي ان تؤدي البطالة الى اضطرابات اجتماعية والى مزيد من الهجرة لمن يستطيع الهجرة. واذا كان لا بدّ من تسمية الأشياء باسمائها، فان المسيحيين سيهاجرون باعداد كبيرة الى بلدان غربية حيث قد يكون مرحبا بعدد منهم وذلك في وقت تعاني فيه كلّ دول الخليج العربي من نوع من الجمود المّ باسواقها وحال دون استيعاب مزيد من اللبنانيين، من كلّ الطوائف، عملوا في قطاعات معيّنة وبرعوا فيها.

 

اذا كان من درس يمكن تعلّمه من السنوات الأخيرة التي مرّ فيها لبنان، فهذا الدرس يتلخّص بعبارة ان المسيحيين لا يستطيعون استعادة حقوقهم، هذا اذا كانت هناك من حقوق تحتاج الى استرجاع، عن طريق سلاح «حزب الله». هناك حسابات إيرانية مختلفة عن حسابات «التيّار الوطني الحر» وما يمثله وما يطمح اليه. في ظلّ الحسابات الايرانية تختلف الاولويات والظروف بين حين وآخر ولا يمثل المسيحيون في لبنان سوى تفصيل صغير في لعبة اطارها أوسع بكثير من لبنان.

 

من المعيب غياب المنطق لدى كبار المسؤولين في لبنان. سيأخذ غياب المنطق لبنان الى كارثة حقيقية، خصوصا ان الناس ستشعر بالجوع قريبا مع انهيار المؤسسات الخاصة الواحدة تلو الأخرى مع ما يستجلبه ذلك من بطالة ومشاكل ذات طابع اجتماعي. لو لم يكن هناك غياب للمنطق لكانت تشكلت حكومة اختصاصيين سريعا، حكومة مدعومة من الأحزاب التي تستطيع التأثير في الناس. فالبلد اهمّ من تمثيل هذه الأحزاب في الحكومة بغض النظر عما تريده اميركا او ما لا تريده.

 

باختصار شديد، لدى اميركا سلاح قويّ وفتّاك اسمه الدولار. لا يستطيع لبنان خوض حرب خاسرة سلفا مع اميركا. فوق ذلك، ان اميركا التي تستطيع تدمير النظام المصرفي اللبناني في لحظة لا تريد السماع بحكومة لبنانية تتمثل فيها الأحزاب، بما في ذلك «حزب الله». في استطاعة هذه الأحزاب ان تكون موجودة عبر شخصيات تعتبر محسوبة عليها بطريقة او باخرى ولكن ليس عبر اشخاص يشكلون عناوين تحدّ ورغبة واضحة في تأكيد انّ لبنان صار تابعا للمحور الايراني في المنطقة. فوق ذلك كلّه، لا يمكن لاي دولة عربية قادرة على مساعدة لبنان، في حال تشكلت حكومة «محترمة» على وجه السرعة، القبول ببقاء هذا البلد العربي مجرد «ساحة» لإيران. هل يعقل ان يكون لبنان قاعدة للحوثيين في اليمن او ملجأ لمن لكلّ ممثلي الميليشيات المذهبية المدعومة من ايران والتي تعمل ضدّ دول خليجية معيّنة؟

 

هل يختار لبنان منطق الحكمة والتعقّل ام يختار البقاء في وضع البلد المعلّق الذي لا يعرف اين مصلحته؟ هذا السؤال الأساسي يطرح نفسه بإلحاح، خصوصا انّه ليست هناك جهة معيّنة مستعدة لإنقاذ الوضع الاقتصادي اللبناني في غياب شروط معيّنة باتت اكثر من معروفة.

 

هذا ليس وقت التنظير والكلام البعيد عن الواقع من نوع الانفتاح على الصين، التي لا تحتاج الى نصيحة احد لو كانت لديها مصلحة حقيقية في الاستثمار في لبنان. كذلك، لا ينفع الكلام عن تطوير الصناعة او الزراعة. قبل التفوّه بكلام من هذا النوع، يبدو مطلوبا المحافظة على ما بقي لدى لبنان. من اهمّ ما بقي لدى لبنان هو النظام المصرفي الذي تحوّل مع ضمور السياحة الى العمود الفقري للاقتصاد.

 

لن ينفع في انقاذ النظام المصرفي الذي كانت تغذيه أموال لبنانية وعربية تغيير طبيعة الثورة الشعبية التي يشهدها البلد منذ شهرين، من ثورة سلمية الى ثورة تتسم بالطابع العنفي. حسنا، حصل تغيير لطبيعة الثورة التي شملت كلّ الأراضي اللبنانية. هناك فئات معروفة استطاعت اشعال فتيل العنف بين الثوار وقوى الامن. ادّى ذلك الى سقوط جرحى والحاق اضرار فادحة في الممتلكات في وسط بيروت، بما يعكس مدى الحقد الدفين على المدينة وعلى ثقافة الحياة في آن. هذا لا يقدّم في شيء بمقدار ما انّه هرب من الاستحقاقات التي تنتظر لبنان، وهي استحقاقات اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها ذات طابع مصيري.

 

في النهاية هل يسهّل «حزب الله» الذي يخشى افلات لبنان منه تشكيل حكومة لبنانية معقولة ومقبولة من المجتمعين الدولي والعربي ام انّ همّه محصور في الدفاع عن مصالح ايران من دون أي مراعاة لمصالح لبنان واللبنانيين، بمن في ذلك أبناء الطائفة الشيعية؟

 

في انتظار الجواب عن هذا السؤال، وهو جواب يبدو معروفا سلفا في غياب معجزة، تبدو بيروت مدينة حزينة… حزينة حتّى الموت!