يرغب عمدة العاصمة البريطانية لندن، بوريس جونسون، بأن تسير مدينته قدماً.. على عجلتين. لذلك، فقد جعل في متن برنامجه «التنموي» للمدينة، خطة تنص على إنشاء طريقين مخصصين للدراجات الهوائية، يصل أولهما شمال لندن بجنوبها (ثلاثة أميال)، وثانيهما، وهو الأطول، غرب المدينة بشرقها (ثمانية عشر ميلاً). وميزة هذين الطريقين اللذين يمرّان عبر وسط المدينة، أنهما من أطول المساحات المدينية المخصصة حصراً للدراجات الهوائية في أوروبا. فهما منفصلان عن سائر شبكات السير، حيث لا يُسمح للحافلات أو السيارات مثلاً بأن تسير فيهما جنباً إلى جنب مع الدراجات الهوائية، خلافاً لما هو معمول به في كثير من المدن الأوروبية الأخرى.
وجونسون، برغم أدائه المسرحي الذي يثير نقد بعض سكان لندن وسخرية بعضهم الآخر، لم يأتِ بمشروعه هذا على سبيل الاستعراض، كما يفعل أحياناً كثيرة. بل إن جملة من العوامل دفعته للسير فيه، من بينها الدعم الذي تلقته الفكرة من قبل رجال أعمال وعديد من الأكاديميين والمختصين في جامعات بريطانيا، الذين وقّعوا عريضة أكدوا فيها فوائد الخطوة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية، فضلاً عن استطلاع رأي عام أفاد بدعم 73 في المئة من المستطلَعين لها.
ومن بين المعلومات التي تداولتها الصحف البريطانية والتي تصب في سياق دعم الخطة، أن التكلفة الإجمالية لها تبلغ 900 مليون جنيه استرليني (نحو مليار و350 مليون دولار)، وهي تساوي المصاريف التي يتكبدها سكان المدينة سنوياً، مباشرة أو غير مباشرة، لعلاج أمراض السمنة. فيما تشير دراسات الجدوى الاقتصادية إلى عوائد كبرى، وهو ما أكدته السنوات الأربع الأخيرة، حيث إن لندن شهدت إطلاق مشروع تجاري لتأجير الدراجات الهوائية في العام 2010 كبديل من خدمات النقل التقليدي، وقد بدأ المشروع الطموح من نقطة الصفر، ليصل عدد أعضائه المشتركين اليوم (أسوة بحاملي بطاقات اشتراك النقل العام) إلى نحو مئتي ألف.
لوهلةٍ، يبدو عرض مشروع الدراجات الخاص بلندن في صحيفة عربية/لبنانية، ضرباً من الترف، أو هروباً نخبوياً من مشاكلنا الوجودية المتناسلة في المشرق. فمن عساه يفكّر بوسائل نقل هوائية، وجحافلُ «أمير المؤمنين» تخوض غزواتها المباركة بعرباتٍ رباعية الدفع في طول المنطقة وعرضها؟
بيد أن الغاية هنا تتصل برصد المسار «النهضوي» لمنشأ صحيفتنا، أي العاصمة اللبنانية بيروت، والتي تستكمل عملية التحول بسرعة، على غفلة من المأخوذين برهبة المشهد الإقليمي المحيط.
فالمدينة التي أريد لها أن تكون مركزاً تجارياً وسياحياً بُعيد إسكات المدافع وافتتاح زمن «الطائف» وحروبه اللبنانية الباردة، تسير في اتجاه إقفالٍ تام لمساحاتها العامة. وهي تستبدل المساحات المفتوحة تلك بنسق عمراني لا هويّة له، وببنية تحتية تفرض نمط حياة شديد الآلية والاستهلاكية، ركيك الإنتاج الثقافي. وقد بحثت مقالة مطولة في صحيفة «الغارديان» البريطانية قبل أيام في ضياع الهوية التي يعاني منها وسط بيروت التجاري ومتفرعاته، وحققت صحيفة «الأخبار» اللبنانية في مقالة افتتحت بها عدد الاثنين، بمشروع مجلس الوزراء اللبناني الجديد، القاضي بتحويل أكبر المساحات الخضراء المتبقية في العاصمة إلى كتل اسمنتية وملعب كرة قدم ومرأب ضخم للسيارات. علماً أنه، باستثناء منشورات قليلة، تندُر الإصدارات العلمية التي تقدّم نقداً جاداً لمسار إقفال المساحات العامة في بيروت، ربما لأن أوان صدورها لم يحُن بعد، أي أن أوان بيروت لم يفُت.. أقله حتى الآن.
وما يثير العجب في استسهال إقفال المساحات العامة في المدينة، أن أكبر حدثين في تاريخ لبنان السياسي خلال العقد الأخير (إلى جانب حرب 2006)، ولدا من رحم هذه المساحات. فكما انطلق «تكتل 8 آذار» من ساحة رياض الصلح وسط العاصمة، قام «تكتل 14 آذار» بعده بستة أيام في ساحة الشهداء على تخوم الساحة الأولى. علماً أن فراغ الهوية الذي يعاني منه الوسط التجاري، الذي يُفترض أن يكون جامعاً وشاهداً على نهاية الحرب الأهلية، انعكس على الفريقين المتصارعين حينها. فعُيّر جمهور «8 آذار» بغربته عن هذا الوسط، لأسباب طائفية وسوسيولوجية لا مجال لعدّها، فيما اختُزل جمهور «14 آذار» بنخبه الاقتصادية والاجتماعية، لأسباب سياسية وطبقية لا يتسع المجال لذكرها أيضاً (من يذكر تسمية تظاهرة «14 آذار» بـ «ثورة غوتشي»؟).
ثمة قدر من الاصطناع الذي تقوم بيروت عليه اليوم، بمئات آلاف سكانها العديمي التأثير، وبُنيتها التحتية التي تهيَّأ لقلة منهم، ولأثرياء من دول الجوار.
لا مشكلة في استقطاب رؤوس الأموال من الخارج. فهذا من حاجات التنمية، خصوصاً أننا مقبلون على عهد يُنتظر أن يقوم عمادُ الاقتصاد الوطني فيه لسنوات على عوائد النفط، أو هكذا يُفترض.
بيد أن المشكلة تكمن في إقفال فضاءات المدينة على من عليها، وفي إخماد النقاش فيها وحصره داخل أسوار جامعاتها، وفي جعلها كتلة اسمنتية صماء بحجة «التحديث»، ومركزاً تجارياً ضخماً ينخرط في نشاطه الروّاد كالآلات، ويعيشون في الأثناء أسلوب حياة رديئاً، صحياً وبيئياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى.. سياسياً.
في لندن، نجحت فئات اجتماعية مهتمة برفع مستوى حياتها اليومي (واهتمامها بذلك من البديهيات)، في إطلاق مشروعٍ بسيط من حيث المبدأ (سبقتها اليه مدن أوروبية أخرى)، يتيح توسيع الهوامش والبدائل لديها، ويفيد المصلحة العامة من غير استثناء أي من الفئات الاجتماعية.
ماذا لو نشأت في بيروت مبادراتٌ تُعنى بتوسيع الهوامش وخلق البدائل، وإعادة الاعتبار للفضاءات والمساحات العامة ووسائل التنقل، وما يمكن أن يخلقه كل ذلك على صعيد الإنتاج الثقافي في منطقة تعجّ بالموت، فضلاً عن تأمين مستوى حياة أفضل، وأقل تكلفاً وتصنعاً؟ وماذا لو عملت من أجل تطبيق هذه المبادرات جماعاتُ ضغط ترى في القضية مصلحة عامة، لها وللأجيال المقبلة، بحلول العام 2020؟
ماذا لو…