Site icon IMLebanon

يا بيروت.. لماذا لم تقتليني!

 

أغار من الذين استشهدوا في إنفجار بيروت، أغار من المسعفين الذين هرعوا إلى مكان الإنفجار وماتوا بعملهم الإنساني، أغار من الرجال والنساء المقتولين خلف مقاود سياراتهم على الطرقات، وأغار من العجائز المشلّعين على بلكوناتهم، وأغار من الأولاد الذين توقف لعبهم للأبد تحت لوح زجاج أو ركام حائط، أغار من العمّال الأجانب الذين سيعودون بالتوابيت إلى عائلاتهم بعدما هلكوا في بيروت، وأغار من الجثث التي ذهبت تبحث عن معالم وجوهها في الجنّة…

 

أغار من كل جريح وجريحة، أغار من كل شخص كان قريباً من الكارثة وتركت في جسده ندبة لا تُمحى، أغار من المهلوعين في غبار العصف، وأغار من المغمى عليهم من الخوف… إنني أغار حتى من الكنبات والكراسي والشبابيك المشلّعة في الجميزة ومار مخايل والأشرفية والمتن وكسروان، أغار من المنازل التي تهدّمت معالمها، ومن المحال والمؤسسات المشوّهة، وأغار من المكاتب التي تبعثرت أوراقها، ومن الأعمدة التي تقطّعت أسلاكها، ومن السيارات المحطّمة، ومن الزفت الذي احتضن دماء الجرحى.

 

لماذا لم تقتليني يا بيروت مثلي مثل هؤلاء، لماذا لم تشوّهيني أو تجرحيني أو تدمّري جنى عمري وتعب الأيام؟ لماذا لم تقتليني يا بيروت، وتركتني يا قاسية القلب أمشي على ردم معالمك وزجاج واجهاتك المكسّرة؟ لماذا لم تقتليني حتى ترحميني من أن أراكِ هكذا، مكسورة ومجروحة ومغدورة؟ لماذا لم تقتليني يا بيروت وتجعلي موتي أسهل من العيش بين ركامكِ؟ لماذا لم تقتليني يا بيروت وتجعلي من آخر يوم لي في أحضانكِ رقصة في تابوت أبيض يرتفع بين الزغاريد وزخّات الأرزّ والورود؟

 

لماذا أنتِ بلا رحمة وبلا شفقة، كيف ترضين أن تتركي هؤلاء المغرومين بكِ أحياء يتفرّجون على موتكِ ويستمعون إلى أنينكِ ويشمّون رائحة الجحيم في أحيائكِ؟ كيف يمكنك أن تكوني قاسية إلى هذه الدرجة، فترحمين المئات فقط باستشهادهم بين أحضانكِ، وتظلمين عشرات الآلاف بحياة يهيمون فيها كالأشباح، ويسيرون بوجع لا يقدرون على إحتماله، ومناظر لا يملكون القوة لتخطّيها؟

 

يا بيروت، كم كان من الأسهل علينا أن نموت في إنفجارك، على أن نعيش حتى نرى مدينتنا التي فنينا العمر لانتشالها، تعود لتسقط وتسقط وتسقط، دون أن تجد ذراعاً تنتشلها أو صوتاً يطمئنها أو كتفاً تبكي فوقه.

 

يا بيروت، أنتِ ظلمتينا بأن أبقيتنا أحياء ولكن نحن لن نظلمكِ… يا بيروت، نحن سنعيد الحياة إليكِ، لأننا لا نملك غيركِ حتى وإن ظلمتينا، ولا نملك غيرك حتى وأنتِ مجروحة ومطعونة وميتة… نحن سننحني فوق جثتكِ وننعشكِ بأنفاسنا، ولن نقوم قبل أن يعود النبض إلى شرايينك.

 

يا بيروت، تعالي انظري إلى أبنائك ينظّفون شوارعك بما توفّر لديهم من مكانس ومعدّات… تعالي إفرحي بأبناء الشمال والجنوب والبقاع يتوافدون إليك بالآلاف لنجدتكِ… تعالي هلّلي لمنازل اللبنانيين المفتوحة في كل المحافظات لاستقبال أبنائكِ المشرّدين من منازلهم…

 

تعالي يا بيروت، تعالي، اشعري بحبّ اللبنانيين لكِ من الجبال والوديان والسهول والقرى والمدن، تعالي اسمعي الغضب الذي يغلي في صدورنا، والقرف الذي زهّر في حناجرنا…

 

تعالي يا بيروت، تفرّجي علينا نقسم اليمين في ساحاتكِ بأننا سنقتصّ من الذين غدروا بكِ، وكيف سنعلّق مشانقهم بأيدينا، وكيف سنجلدهم بألسنتنا شتماً وضرباً، وكيف سنغسل جثثهم بالبصق عليها.

 

يا بيروت، أنتِ الأخت وأنتِ الأم وأنتِ الجدّة، وأنتِ الحضن وأنتِ الملجأ وأنتِ الجنّة… نعلم كم تشعرين بالغدر والإحباط والأسى، لكن اعذرينا هذه المرّة فقط، ورجاء لا تعودي إلينا قبل أن نرسل من أبكاكِ إلى الجحيم.