الكلام بداية علاج والتضامن نجاة
الأحزان كثيرة، تُدمي حتى الحجر، وما يثني عن حزن في “لبناننا” هو حزن آخر، قهرٌ آخر، تعبٌ آخر، يأسٌ آخر، مرضٌ آخر وانفجارٌ آخر… فهل اللبنانيون بخير؟ ماذا عن تراكم الأحزان في العقل والقلب والروح والجسد؟ هل اعتاد “ولاد البلد” على الحزن الكثير ومن يعتاد على شيء، وإن باغته بشكلٍ آخر، يهزمه؟ وماذا عن تأثير تراكم الصدمات على اللبنانيين، كباراً وصغاراً؟ وماذا يعني أن نرى، كيفما نظرنا، في كل الإتجاهات، صراخاً كثيراً وبكاء كثيراً ودماء كثيرة ودماراً كثيراً والكثير الكثير من المفقودين؟
من يفهم في علم النفس ينصح من “يتصدّع” نفسياً بترميم نفسه بنفسه، بالبكاء إذا شاء، بالرسم إذا شاء، بالصمت، بسماع الموسيقى، بالمشي، بالمساعدة، بالتضامن، بالتضافر، وبسردِ القصص أو بسماعها… فليس أقسى من رؤية النعوش البيضاء أو سماع أصوات من ينادون أحباء اختفوا، ولا يعرفون إن كانوا “ميتين أو طيبين”، أو رؤية جنى العمر مستوياً بالأرض! وليس “أسخف” من المرور ببيروت اليوم وسؤال أهل العاصمة والبلد: “كيف صحتكم”؟
كلام كثير وحراك كثير وانتظارات كثيرة ودموع كثيرة وصبر يزيد عن صبر أيوب… لكن، في هذا كله، هل سأل احدهم: هل سيخرج البيارتة من النكبة سالمين معافين؟
نحن في مناسبتين متشابهتين هما هيروشيما وبيروت… شيما (كما سماها البعض)، ففي الأولى مات من مات وتشوه خلقياً من تشوه، وفي الثانية مات من مات والآتي قد يكون نفسياً وخلقياً وصحياً أعظم! الوقت كفيل في تبيان أمور كثيرة، والحاضر، في كثير من مشاهده، يوحي بما سيكون عليه المستقبل. فالناس يتشاجرون لأتفه الأمور. وهم غير قادرين على سماع أصوات مرتفعة. حتى الموسيقى أصبحت ثقيلة على سمع الكثيرين… وانسحب ذلك على الإختصاصية النفسية، رئيسة “جمعية العناية بأطفال الحرب” الدكتورة ميرنا غناجة، التي تهتم بالأطفال الذين يتعرضون الى صدمات الحروب، لكنها تعيش في هذه اللحظات صدمة نكبة بيروت. فمنزلها تشلع وعيادتها إنقلبت “فوقاني تحتاني”، وتقول: “لست قادرة على الكلام الآن فأنا متوترة جداً ومضطربة”. يبدو أن لا أحد بمنأى عن الإضطراب لكن ما العمل؟ هل نستسلم أم نبحث أكثر عن سبل المواجهة والصمود؟ وماذا لو دام هذا الإضطراب ودام وطال وتحوّل الى مشكلة نفسية حقيقية؟
الإختصاصي في الأمراض النفسية الدكتور إيليو ساسين يتابع مسار “الصدمات النفسية” المتتالية التي تصيب لبنان ويقول: “هذه الصدمات تؤدي الى إضطرابات نفسية كثيرة وتندرج إما في خانة القلق النفسي أو قلق ما بعد الصدمة”. ويستطرد: “هناك ضرورة ماسة للحماية من ارتدادات الحروب العادية المتواصلة لكن ما نشاهده حالياً هو تحول كارثي بسبب ضخامة الانفجار الذي طال كثيرين و”بلبل”، مادياً ومعنوياً وجسدياً، حال الكثيرين، وترك أثراً بليغاً في مشاعر الكثيرين. الأطفال، كما الكبار، هز أجسادهم الإنفجار وعادوا وتابعوا، عفوياً، مشاهد الثياب الملطخة بالدماء والأطفال المذعورين والمركبات الهالكة والبيوت المشلعة، ومن لم يُصب في الإنفجار وشاهد ما شاهد، يتأثر مباشرة، وكأنه كان هناك، ومن شاهد الناس تركض مذعورة سيضع نفسه مكان هؤلاء، معهم، هكذا نحن، في طبيعتنا، نشعر مع الآخرين وهذا جزء من تكويننا. إننا نعيش الحدث مع وطأته وكأننا عشناه فعلياً”.
سيبقى هذا المشهد راسخاً في البال
الحرب تنتهي ولا تنتهي. الإنفجار انتهى لكنه لم ينته. هذه ليست حزورة بل واقع يعكس آثار الصدمة التي نعيشها، أو قد نعيشها، على أعصابنا. في كل حال، إذا كانت الأرقام والنسب قد دلت الى أن 25,8 في المئة من اللبنانيين البالغين عانوا اضطراباً نفسياً واحداً على الأقل خلال مرحلة ما من حياتهم، فإن الإنفجار- النكبة الأخير أصاب جميع اللبنانيين باضطرابٍ لم يتمكنوا من التعبير عنه بعد. التعرض الى الحروب قد تنتج عنه إضطرابات نفسية جمة بينها الإكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، أي الإضطراب الذي يظهر بعد سنوات على انتهاء الحدث المسبب له ويظهر على شكل هلوسة وإحساس بالذنب والتشوش والخلط الذهني والإنفعالات القوية. وما يجهله كثيرون، أو لنقل يتجاهلونه، هو أن الإصابة النفسية ليست مجرد عارض قد ينتهي كما بدأ، فالأزمات النفسية لا سيما منها حالات القلق والكآبة والهستيريا تتطلب غالباً المتابعة الحثيثة لإعادة المريض الى برّ السلامة، قبل أن يصبح على هامش الحياة وتصبح الحياة عبئاً ويُفكر في إنهائها بانتحار. ونحو عشرين في المئة من المصابين بالكآبة يحاولون الإنتحار. وصوَر من أقدموا على الانتحار في لبنان، في الأشهر القليلة الماضية، تستمرّ راسخة في أذهاننا.
الطبيب النفسي إيليو ساسين يتحدث عن الصدمة عند الأطفال أيضاً فيقول: “لا أحد ينجو، مئة في المئة، من تأثير اضطرابات الحروب وتأثير الإنفجارات. وهناك نوعان من الأطفال، من عاشوا في قلب الحدث وعانوا مباشرة منه، والتأثير يكون عليهم شديداً، كذلك يتأثر الأطفال الذين شاهدوا الصور مستخدمين مخيلاتهم القوية، لذا من الضروري أن نتكلم مع هؤلاء إذا سألونا ولا نكذب عليهم، ونهتم بهم “زيادة” في هذه الفترة الزمنية حتى ولو قيل لنا إنكم تُكثرون بدلالهم. فلنتكلم معهم كثيراً ونشجعهم على الكلام، وعلى البكاء إذا شاؤوا، بدل ان نقول لهم “أنتم قبضايات والقبضاي لا يبكي”.
يهم أن يعرف الجميع أن الطفل يتأثر كثيراً وهو لن يتمكن من التعبير بانسيابية، وقد يتوقف في قرارة نفسه كثيراً عند مشهد الخادمة الأجنبية التي تحوط بالأطفال الثلاثة لحمايتهم من تطاير الزجاج. سيسأل عما يراه. وسيصغي الى الأمهات الملتاعات اللواتي يطالبن بالكشف عن مصير أولادهن. وسيشاهد البكاء فوق النعوش. الولد يتأثر كثيراً. لكنه يعجز عن الإفصاح بسهولة عن مشاعره ووصف آلامه النفسية فتأخذ مشاعره أشكالاً أخرى من التعبير فيضطرب نومه ولا يعود يأكل، وإذا أكل لا يعود يشبع، ويتلعثم في الكلام ويضطرب سلوكه ويصبح عدوانياً.
الصغار والكبار يتأثرون، والصدمات القوية كما الإنفجار الهائل تترك آثاراً لا تمحى. البارحة، تشاجر الجيران على قيام أحدهم بإطلاق مفرقعات إحتفاء بزفاف قريبه، وحين تلقى سيلاً من الصراخ طالبين منه أن يحترم الحزن العام ونوم الأطفال أجاب بغضب: “سأطلق عليكم النيران” مباشرة. وفي فيترون اتصل سكان مجمع الساتيليتي بقوى الأمن لإيقاف الموسيقى التي تهدر في الأجواء. عبثاً. فالعرس كان لأحد أبناء مسؤول رسمي. تعب الناس. أعصاب اللبنانيين على “صوص ونقطة”. وما عاشوه (وما زالوا) أكثر من قدرة الكثيرين على الإحتمال.
الاختصاصي في علم النفس الدكتور سمير جاموس يحدد الأعراض الدالة الى تجاوز قدرة الإنسان على الإحتمال بما يلي: يضطرب النوم ليلاً، يحصل الأرق فجراً، ويغط المرء في نوم عميقٍ عميق نهاراً، تضطرب الشهية على الطعام، يأكل المكتئب كثيراً أو بالكاد يأكل، فلا يعود قادراً على التحكم بحاسة الجوع والشبع.
ماذا عن العلاج؟
لعلّ المشكلة الأهم هي عدم التشخيص، فمجتمعاتنا العربية تعتبر هكذا أعراض عادية، عرضية، قد تذهب مثلما أتت، وبالتالي الإعتراف، بصوت عال، أن سوءاً ما بدأ يسيطر على النفس والجسد نادراً ما يحصل. ناهيكم أن كثيرين يخشون الإعتراف بالأعراض خشية ان ينعتوا، وفق الاعتبارات الشعبية، بالجنون. وبأن “القلق ربع جنون والمكتئب نصف مجنون والاعتراف بالقلق والإكتئاب جنون كامل”!
“الاكتئاب ليس جنوناً. انه مرض يحتاج الى علاج لكن المشكلة أن الانسان أينما كان، أكان مكتئباً أم لا، يرفض أن يدق جرس عيادة طبيب نفسي خوفاً من أن يُنعت بالجنون، فالطبيب النفسي في القاموس الشعبي هو طبيب مجانين، وهذا ما يجعل المرض النفسي يتحكم بالإنسان ويصبح علاجه أكثر صعوبة. والأطباء، أطباء الصحة والعائلة أنفسهم، يرفضون بحسب سمير جاموس تجيير مريضهم الذي يعاني من النحول المفرط والتعب الهائل الى طبيب نفسي، محاولين علاجه عضوياً كإعطائه فيتامينات ومسكنات بينما السبب يكمن في مكان آخر ويحتاج الى علاج آخر تماماً”.
القلق يسيطر على الجميع. الخوف من “بكرا” يسود. صوت الإنفجار الذي صدح يكاد لا يغيب، كما طنين الآذان، في كلِّ مرة نقترب من سماع خبر ما.
القلق له علاج، لكن ما ليس له علاج هو انتظار مفقودين ضاعوا في الإنفجار. هو انتظار مثقل بالألم. هؤلاء لا يدرون إذا كان أولادهم أحياء أو أموات. فهل يكفي أن يحكى هنا عن قلق وعن اكتئاب وعن صدمات؟ يجيب ساسين: “هذه هي المرحلة الأكثر صعوبة، خصوصاً أنه، في الحالات العادية، نرى الميت لنتأكد من رحيله. هي أصعب مرحلة وكلما طالت بين الإنتظار والتأكد والإعتراف ستكون إرتداداتها هائلة. وفي هذه المرحلة لا يمكننا إلا التضامن وفقط التضامن لأن لا دور، في هذه المرحلة، للمنطق والعقل. العاطفة وحدها تتحكم هنا”.
البارحة، نزل اللبنانيون للتضامن مع الثكالى والحزانى والمتعبين والمنهكين. وارتداد هذا أتى مزدوجاً، على من ساعدوا وعلى من تلقوا المساعدة. فالتضامن علاج نفسي مجاني.