Site icon IMLebanon

نكبة بيروت: الدولة ركام والمسؤولون حطام!

 

 

هل هناك فرق بين مرفأ بيروت وأحيائها المدمرة والمصطبغة بدماء مئات الشهداء والجرحى، بعد التفجير الثالث الأكثر هولاً بعد هيروشيما وناغازاكي، وبين أشلاء هذه الدولة اللبنانية المحطمة أصلاً، فجاء الانفجار في الرابع من هذا الشهر ليجعل منها ركاماً متناثراً ومن المسؤولين حطاماً سياسياً؟

لا فرق إطلاقاً، فليس من المبالغة القول إن مسارعة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تفقد مسرح الانفجار، وجولاته في كل الأحياء المنكوبة، في حين كان المسؤولون في حال من الضياع والغياب الفاضح، كانت دليلاً حاسماً على أن الدولة المتهالكة مصادرة تماماً، وعاجزة تماماً، ومرتهنة تماماً، وهو ما يزداد وضوحاً، بعد 13 يوماً من الكارثة، ولو عبر أربعة محاور تؤكد فعلاً أن الانفجار الذي روّع العالم، دمر نهائياً حطام الدولة ومؤسساتها الفاشلة، وهذه المحاور هي:

أولاً – مسار التحقيق في الجريمة الذي اختير له اتجاهاً أوحى بالنسبة إلى معظم اللبنانيين تقريباً، أن هناك رغبة في لفلفة المسألة المروعة.

ثانياً – مسار تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة حكومة اللون الواحد التي شكلها «حزب الله»، وذلك وسط مواجهة وألاعيب معيبة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

ثالثاً – الغياب المطلق للدولة عن الحد الأدنى من مسؤولياتها في المنطقة المنكوبة، وحضورها فقط في مسرح القمع الناري الوحشي للثوار الذين يدعون إلى محاسبة كل هذا الطقم السياسي الفاسد.

رابعاً – المحاولات القذرة للرقص على قبور الذين استشهدوا، عبر السعي للاستثمار في مآسي المواطنين الذين تدمرت منازلهم الأثرية تحديداً، بعد ظهور أشباح أرسلهم سياسيون لشراء هذه المنازل، وهو ما يتجاوز الجريمة.

أولاً – فيما يتصل بالتحقيق، سارع الرئيس ميشال عون، حليف «حزب الله» إلى تكليف المجلس العدلي التحقيق في الجريمة، رغم أن تاريخ هذا المجلس مشهور بأنه لم يصل إلى نتيجة في تحقيقاته بعشرات من الجرائم الخمسين التي أحيلت عليه، ومنها مثلاً اغتيال كمال جنبلاط، والرئيس رينيه معوض، واختفاء الإمام الصدر ورفيقيه، وجريمة اغتيال رفيق الحريري، ومحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة، واغتيال جبران تويني، وعشرات جرائم الاغتيال بعد عام 2005.

كان من الغريب أن يسارع الرئيس عون إلى تكليف المجلس العدلي التحقيق في هذه الجريمة المتداخلة والمعقدة، وكل ما فيها من تفاصيل وحلقات مفقودة يثير الشكوك، كما يظهر يومياً، حول تاريخ ومسار وأصحاب شحنة «نيترات الأمونيوم» عام 2013 إلى انفجارها في 4 أغسطس (آب)، وكذلك أمام ما يشاع عن إمكان أن يكون تفجيرها تم بصاروخ إسرائيلي حديث من النوويات المخضبة، كما تشيع بعض الروايات، انطلاقاً من غياب مثير لأي اتهام يوجه إلى إسرائيل منذ اليوم الأول، ربما كي لا يبدو الأمر – كما يقول البعض – وكأنه عملية قصف لمخازن صواريخ «حزب الله» الإيرانية، سبق أن أشار إليها بنيامين نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة، عارضاً خرائط تظهر منطقة المرفأ تحديداً!

كان من المستغرب فعلاً أن يقول الرئيس عون: «إن المطالبة بالتحقيق الدولي تضييع للوقت، وإنه لا يعود للحكم أي معنى إذا طال صدوره، والقضاء المتأخر ليس عدالة»، هذا في وقت تقول فيه قوى سياسية كثيرة في لبنان والعواصم الكبرى، إنه يجب إجراء تحقيق دولي في هذه الجريمة المروعة والمعقدة. وفي هذا السياق قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: «يجب إجراء تحقيق موثوق وشفاف بشأن الانفجار، وتنفيذ المساءلة التي يجمع عليها الشعب اللبناني»!

حتى في عملية تكليف القاضي العدلي الذي يفترض أن يقوم بالتحقيق، حصل تناقض مثير يوم الأربعاء الماضي بين وزيرة العدل المستقيلة ماري كلود نجم ومجلس القضاء الأعلى، عندما اقترحت اسماً رفضه المجلس، وقيل إنه ينتمي إلى حزب مقرب من التحالف الحاكم، وهو ما يذكِّرنا بالخلاف العميق المستمر حتى هذه اللحظة، بعدما بقيت لائحة التشكيلات القضائية التي وضعها المجلس برئاسة القاضي سهيل عبود، الممتاز بشهادة كل اللبنانيين، في درج الرئيس عون!

وحتى منظمة «هيومن رايتس ووتش» ردت على عون بتغريدة جاء فيها: «ماذا فعلت السلطات اللبنانية لتثبت للشعب أنها أهل للثقة، وأن لبنان لا يحتاج إلى تحقيق دولي؟ أين إنجازات القضاء مثلاً في الكشف عن الفساد الرسمي المتفشي منذ عقود؟».

ثانياً – جاءت استقالة حكومة الفشل والخيبة بعد ثمانية أشهر، على خلفية اشتباك سياسي غريب، أكثر منه على خلفية هول ذلك الانفجار المريع الذي دمر نصف العاصمة، فمع ارتفاع الغضب الشعبي العارم حيال الشهداء والمفقودين حتى الآن، وسقوط أكثر من خمسة آلاف جريح، وتدمير عشرة آلاف مؤسسة تجارية، وتشرد أكثر من 300 ألف مواطن دمرت منازلهم، ومع بداية سبحة الاستقالات النيابية التي بدأها مروان حمادة ليل الجريمة، ولوح بها عدد من الوزراء، شعر حسان دياب أن اقتلاعه من السرايا سيتم بين لحظة وأخرى، وخصوصاً بعدما قرر الرئيس نبيه بري عقد جلسة مناقشة نيابية فُهم أنها ستنتهي بإسقاط الحكومة.

كان من الواضح أنه حيال ارتفاع تسونامي الغضب الشعبي العارم، وعودة الثورة إلى حيويتها، بات المطلوب إلقاء استقالة الحكومة كترضية آنية للشعب، وخصوصاً أن بعض الوزراء كان قد أعد بيان استقالته أمام النقمة المتزايدة، وهنا حاول دياب – على ما بدا – أن يقطع الطريق محاولاً امتصاص النقمة، عبر دعوته إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وهو ما يطالب به المتظاهرون، ولهذا قامت قيامة عون وحلفائه في الثنائية الشيعية التي سارع وزراؤها إلى وضع استقالاتهم في وجه دياب الذي كعادته أتحف اللبنانيين ببكائية صبيانية معلناً استقالة الحكومة.

أمام هذا فتح بازار تشكيل حكومة جديدة على مصراعيه، وكان الرئيس ماكرون دعا إلى تشكيل «حكومة وحدة وطنية»، ومن الواضح هنا أنه كان يقصد توافقاً بين كل الأفرقاء لمواجهة الكارثة، لا العودة إلى «حكومة الوحدة الوطنية» الزائفة التي استقالت أمام الثورة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وكان من الواضح أن ماكرون الذي زار بيروت وسيعود إليها في سبتمبر (أيلول)، والذي عقد مؤتمراً دولياً عبر الإنترنت حضره الرئيس دونالد ترمب وعدد من الزعماء الأوروبيين والعرب والخليجيين، لا يحمل مبادرة فرنسية حيال «حكومة وحدة وطنية»؛ لأنها لن تحل المشكلات؛ بل ستفجر الثورة أكثر.

الحديث يرتفع أمام كل هذا عن ميل فرنسي أميركي إلى تشكيل حكومة محايدة من شخصيات من خارج الأحزاب، وهو ما يمكن أن يقنع مثلاً القاضي الدولي نواف سلام بتشكيل الحكومة، أو يقنع سعد الحريري بالعودة إلى السرايا، ولكن تحالف عون والحزب يعارضه، ومن هنا جاء اتصال ماكرون يوم الأربعاء بحسن روحاني الذي دعا فيه «كل الأطراف المعنية إلى الكف عن التدخل الخارجي في لبنان، ودعم تشكيل حكومة جديدة»، في حين أعلن الأميركيون مع وصول ديفيد هيل نائب وزير الخارجية إلى بيروت، ضرورة «تشكيل حكومة تعكس تطلعات الشعب اللبناني»، في وقت ينادي فيه هذا الشعب بضرورة إسقاط كل المنظومة السياسية التي خربت لبنان!

لكن الموضوع سيعود إلى المربع الأول، فمن الواضح أن عون سيتمهل في إطار ما يسميه سلسلة من المشاورات تسبق الاستشارات الملزمة الدستورية، بحجة تسهيل التشكيل، كما حصل قبل تشكيل حكومة دياب، ما يعني أن الوضع قد يتجه إلى فراغ وحقبة طويلة من تصريف الأعمال، في وقت بدا فيه أن هناك إجماعاً دولياً على مساعدة الشعب اللبناني المنكوب، ولكن ليس عبر السلطات الرسمية، وهو ما يشكل إدانة معيبة لدولة كانت متهالكة ذاتياً، قبل أن يأتيها الانفجار الكبير المدمر!

ثالثاً – بعد مضي أسبوع على الثلاثاء الأسود، كان من الفاضح جداً أن يعلن الخبراء الفرنسيون والهولنديون الذي يساعدون في البحث عن المفقودين في المرفأ، أنهم اكتشفوا 20 حاوية من المواد المتفجرة الشديدة الخطورة، ما يعني غياب الدولة منذ أسبوع عن التدقيق في مسرح الانفجار، وإضافة إلى ذلك تبين أن هناك في شركة كهرباء الزوق ثلاثة أطنان من المواد التي قال وزير الطاقة ريمون غجر إنها ليست خطرة ولا متفجرة، في حين طلب النائب العام بعد ساعات إزالتها لأنها شديدة الخطورة، ولكن حين رفض أهالي منطقة كفرذبيان أن يتم تفجيرها في عيون السيمان، ورفض أهالي الشمال إرسالها لتحرق في معامل شكا، عادت الشاحنة إلى الزوق، في انتظار قرار من الدولة الهمايونية، وفي وقت فرغت فيه المناطق المحيطة من السكان خوفاً… ويا للعيب!

رابعاً – بثت المحطات التلفزيونية في اليومين الماضيين، مقابلات وتصريحات للأهالي المنكوبين والمدمرة منازلهم في الإحياء التراثية التاريخية في مناطق محيطة بالمرفأ، مثل حي السراسقة والجميزة وغيرها، تقول إن هناك من يجول على أصحاب هذه المنازل المتضررة، عارضاً شراءها وبمبالغ مغرية، فبدا الأمر نوعاً من الرقص على جروح الناس من المتمولين المتوحشين، ومحاولة لتوسيع الوجود المذهبي، وهم بالتأكيد من الذين نهبوا الدولة وأفلسوا البلاد، ويريدون حتى الاستثمار في مآسي الناس، ولهذا قرر الأهالي هناك عدم بيع أي منزل مهما كانت المغريات الرخيصة التي تقدم لهم.

والسؤال المؤلم: ماذا بقي في لبنان الذي تديره الدويلة؟ لا شيء تقريباً، فالانفجار المروع دمر المرفأ ونصف العاصمة بيروت، والدولة، والحكومة، ومجلس النواب الصامت عن الهول، فلا يستقيل النواب حياءً، وأين الأخلاق عند أولئك الذين يريدون الاستثمار في دماء الناس، في بلد يعاني من حشرجة الموت وهامشية المسؤولين؟