Site icon IMLebanon

يا بيروت التي تسكنني

 

أعرف أن أول طائرة في الجسر الجوي من الإغاثة الطبية والمساعدات، الذي أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بتسييره إلى لبنان بعد دقائق من حصول الانفجار المأسوي الكبير، الذي دمر المرفأ وحطم نصف حبيبتنا بيروت، أعرف جيداً أنه حمل معه قلوبنا الواجفة جميعاً، وألمنا ووجعنا العميقين، نحن جميعاً هنا في المملكة العربية السعودية، عندنا لبيروت ولبنان مكانة عميقة ووشائج تاريخية، تحتل مساحة واسعة أخوية وعميقة في مشاعرنا ومحبتنا، كما في قلقنا ووجعنا على العاصمة الرائعة المغدورة، التي طالما مثلت وستبقى عروس العرب.

يا بيروت مدينة التاريخ، يا حبيبة الشعر والشعراء، يا بيوت القصائد، يا أم الشرائع، يا أيها الترجيع الساحر في عالمنا العربي، لقد أدميت قلوبنا وأنت مثخنة بهذا العدد من الشهداء وبجروح الأهل وآلام المحطمين، وبفيض من دموع الساحات والقرميد، يا بيروت التي عشقناها وعشقتنا، كيف لنا أن نمسح جراحك والدموع، وأنت تئنين مدمرة وجريحة وحزينة، فيا للهول ويا للوحشية، ويا لعمق المرارات التي تحفر في قلوبنا أمام هذه الجريمة البربرية التي تعرضت لها.

لقد عرفتك يا بيروت ويا لبنان ويا أيها الأحباء اللبنانيون جيداً، عرفتكم سفيراً سعيداً وأخاً عزيزاً عندكم؛ حيث توسعت الصداقات والعلاقات الأخوية التي لن تنقطع، والتي تحوّم داخل الصدور كما تحط أسراب الحمام على القرميد، وأكاد بكثير من التأثر والحزن أن أسمع الآن هنا في عسير، نواح ذلك البحر الذي طالما غسل أقدام المدينة الحبيبة المنكوبة، والذي طالما شاهدته يلقي تحية الصباح على سفارتنا ويرسل سلام الوفاء والود والمحبة إلى المملكة العربية السعودية، ولا عجب أن بين بيروت والرياض علاقة سيامية لا تنفصم من المحبة والود وبصمات التاريخ.

الانفجار المتوحش دمر العاصمة العربية الأصيلة، وترك وجعاً وأنيناً وجراحاً في أحاسيسنا حيال مدينة عشقناها وعشقتنا، إنني أعرف جيداً أن البشر والناس يسكنون المدن عادة، لكن بيروت هي المدينة الرائعة التي تسكنني حيثما كنت، والتي تسكنك وتبقى ساكنة في عمق محبتك مهما ابتعدت عنها، ولست أبالغ قطعاً لو قلت إن دوي التفجير الوحشي هز أركاني ونزل علينا في عائلتي ثقيلاً وموجعاً، ليس لأن لنا في بيروت أحباء وصداقات وإخوة فحسب، بل لأن بين وطني في المملكة وبين لبنان تاريخاً من الأخوة والمحبة والحدب يعود إلى 68 عاماً، تحديداً يوم كان الرئيس الراحل كميل شمعون أول رئيس لبناني يزور المملكة عام 1952 ليبدأ تاريخ أخوة راسخ في الماضي والحاضر والمستقبل.

وأعرف جيداً أن نصيحة الملك المؤسس ستبقى قلادة للتاريخ، يوم قال لضيفه: «إن نسيج لبنان وتعدد طوائفه ومذاهبه يعطيه ميزة وفرادة، وإن عليه البعد عن المحاور والتحالفات والتركيز على أهمية الحوار والتفاهم والتعاضد بين جميع الأطياف والأفرقاء اللبنانيين، لينعم بالأمن والاستقرار بعيداً عن الأطماع، وفي إطار من الوحدة الوطنية الراسخة التي تحميه وتصون استقلاله».

إنه التاريخ الذي جعل لبيروت مكانة في قلب كل سعودي وكل عربي مخلص، وها هو الانفجار المجرم يجرح قلوبنا جميعاً، وأعرف جيداً أن طلائع الجسر الجوي السعودي إلى بيروت لم يحمل الإغاثة الطبية والمساعدات والإسعافات فحسب، بل حمل قلوبنا ووجعنا وهلعنا على بيروت المدينة الحبيبة، عاصمة لبنان الذي طالما وصفته السعودية بأنه واسطة العقد العربي.

كل الأسى وكل الألم وكل الرجاء أن يكون حبنا لبيروت ضمادات لآلام الذين فقدوا أحباءهم، ولجروح من يحتضنون جرحاهم، ولن أنسى قط يوم قلت للعائلة اللبنانية يوم كنت سفيراً في بيروت: «إن سجل العلاقة الأخوية يجمع بلدينا بأرقام من محبة لا تحصى وبتوقيع من 5 أحرف عزيزة، لبنان».

فيا بيروت الحبيبة أحزانك تغمرنا وجراحك تنزف فينا، ونحن كما كنا دائماً شقيقان سياميان، والمملكة العربية السعودية بقيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين لا تقيم جسر الإغاثة والمساعدات فحسب، بل تقيم جسراً من القلوب التي تنبض في بيروت الجريحة، بيروت التي تسكنني.

 

 

– السفير السعودي السابق لدى لبنان