IMLebanon

منعاً للإنفجار السكاني

 

زلزال بيروت هزّ لبنان من شماله الى جنوبه. العاصمة مهمة جدا كما بقية أنحاء الوطن في المدن والريف. لا يمكن بناء اقتصاد حديث من دون مدن متطورة تشكل الثقل المعنوي والمادي للدولة. هنالك فوائد كبرى للمدن الكبيرة أهمها السماح بالتلاقي والاستفادة من الطاقات البشرية الموجودة في الجامعات ومعاهد البحوث. تسمح المدن الكبرى للأفكار الجديدة بأن تظهر وتنفذ وهذا مهم جدا للتقدم. هنالك مقومات سلبية تعود الى زحمة السير وتكلفة السكن والتحديات الصحية الخطرة. تكلفة السكن تهجر في نفس الوقت الفنانين والحرفيين والمؤلفين والشركات الصغيرة الذين يشكلون الركيزة النوعية للحياة المدنية. تتردى هذه النوعية خاصة بسبب تكلفة السكن وهذه خسارة كبرى.

 

هنالك أسئلة عدة تواجه المسؤولين في المدن خاصة في الدول النامية، أولا هل يمكن تفعيل الانتاجية للسماح بزيادة دخل المواطنين. ما الفائدة للمواطن من السكن في المدن اذا كان الفقير سيزداد فقرا؟ المهم أن لا ترتفع نسبة الفقراء مع تطوير المدن. من ناحية أخرى، وجود الفقراء في المدن يمكنهم من ايجاد فرص عمل في الشركات. هذا التواصل الايجابي مهم لكنه يسهل في نفس الوقت انتقال الأمراض بين السكان بسبب التقارب الوظيفي في المعامل والشركات في دول غير مجهزة عموما بالانترنت السريع والتكنولوجيا المتطورة.

 

معظم الدول تحتوي على العديد من المدن الأساسية. مستقبل الاقتصادات هو مدني لأن الانسان ما زال يرغب في العيش فيها بالرغم من الاكتظاظ والضجيج والتلوث. الريف والقرى يبقيان مهمين للزراعة والصناعة وحتى السياحة، لكن الثقل الاقتصادي لا بد وأن يكون في المدن الكبيرة كنيويورك والقاهرة ولندن وبيروت وغيرها. الدول النامية تهمل تطوير حدائق خضراء داخل مدنها تسمح للمواطنين والأطفال بالتنزه والتنفس الصحي. بناء مدن الأسمنت كارثي، وهنا يكمن دور التنظيم المدني الضعيف في التنفيذ.

 

تشير احصائيات الأمم المتحدة الى أن سكان المدن في القارة الأفريقية سيتضاعف 3 مرات بين سنتي 2018 و 2050 مما يخلق مشاكل كبرى معيشية وبيئية وسكنية وأمنية وغيرها. الهند والقارة الأفريقية ستشكلان ثلثي الزيادات السكانية العالمية في المدن بين 2018 و 2050 أي من 4,2 مليار شخص الى 6,7 مليار في 2050. تشير هذه الاحصائيات الأممية الى تغيير كبير في الخريطة السكانية العالمية بين الدول من جهة، وداخل الدول من جهة أخرى أي التوزع بين المدن والريف. المدن تكبر لكن نسبة الفقر ترتفع معها، مما يزيد من خطورة السلم الأهلي. طبعا لا يمكن وصف هذه الحقائق بالايجابية لكن يجب التعامل معها ومع نتائجها كي تكون التأثيرات على الاقتصاد الدولي الأقل سوأ.

 

من الممكن اعتبار الموضوع المدني الأهم للدول النامية، اذ يؤثر على التوازنات المالية والاقتصادية كما الاجتماعية. وضع المدن مهمل فيها عموما حيث التحديات الاقتصادية والصحية كبيرة ومتراكمة. التزايد السكاني فيها هو الأعلى ويتوزع بشكل فوضوي في أحيائها دون درس التأثيرات الصحية والمعيشية بالعناية الكافية. التزايد السكاني في الدول الفقيرة هو الأعلى ويتم بالتزامن مع انحدار في القدرة الشرائية والمعيشية للمواطنين مما يخلق أزمة حالية ومستقبلية كبرى. زيادات سكانية كبرى بالاضافة الى تدني الامكانات المادية يشكلان سوية قنابل موقوتة لا بد وأن تنتج «سترات صفر» أو أسواء بعد سنوات. كيف تتم المعالجة؟ عبر اقناع السكان بترشيد الانجاب وهذا ما عملت عليه دول عدة في كل القارات، وثانيا عبر تحسين الخدمات الاجتماعية والصحية مما يسمح بتشكيل ثروة سكانية وبشرية فاعلة ومنتجة.

 

يواجه تطوير المدن في الدول النامية صعوبات ناتجة عن الانتشار السكاني السريع داخلها وعن غياب الايرادات المالية الضرورية لتأمين العيش الهادئ. ما هي أبرز التحديات التي تواجه المدن في الدول النامية؟ التوسع المدني السريع أي توسيع الفقر وانتشاره دون درس الحاجات الانسانية المرتكزة أصلا على بنية تحتية غير كافية وبنية فوقية غير مناسبة وغير عصرية. تكلفة السكن كبيرة والنوعية سيئة، وهذا ما يشهد عليه العالم أجمع. المساحات السكانية تضيق، يرتفع سعرها وتتدنى نوعيتها. يحصل هذا الواقع في أكثر المدن تطورا وحتى في الدول الصناعية. أما التلوث الذي يخلق مشاكل صحية فتتجاهله الحكومات، علما انه مسبب للأمراض وحتى للفياضنات والزلازل المدمرة. في كل المدن معالجة النفايات تبقى مهمة ونشهد في لبنان على عجزنا عن ادارة هذا الملف لأسباب متعددة وخلال سنوات طويلة وما زلنا، علما أن دول أكبر منا بكثير كالصين والهند والولايات المتحدة والبرازيل وجدت حلولا مناسبة وان لم تكن فضلى. في لبنان تتراكم المشاكل في كل القطاعات والجميع يرمي المسؤولية على الآخرين والتهرب الوظيفي سيد الموقف ولا من يحاسب.

 

في الدول الأوروبية، تتوسع المدن بالرغم من تردي الخدمات الانسانية والاجتماعية. هنالك نقل لبعض الأحياء الفقيرة الى أحزمة البؤس وبناء أحياء جديدة للميسورين. هذا يحصل في أميركا وأوروبا وغيرها. هذا لا يحل المشكلة انما ينقلها بعيدة عن الأعين أي أعين الميسورين والمسؤولين. هكذا تقسم المدن عادة الى قسمين من نواحي المدارس والمستشفيات وكافة الخدمات، قسم للفقراء وآخر للأغنياء. هذا الواقع معروف ونشاهده وأحد أسبابه الأساسية رغبة المواطن في العيش في المدن حتى لو كانت النوعية متدنية. حكومات الدول النامية مذنبة ومقصرة اذ أنها لم تؤهل الريف كما يجب كي يبقى المواطن فيه ويعيش بكل احترام مع كل الحقوق. يضطر للانتقال الى المدن بالشروط السيئة اعتقادا منه أن مستقبل الأولاد سيكون أفضل وأن فرص العمل ستتوافر بالشروط المناسبة. غالبا وللأسف يسوء الظن لكن العودة الى الوراء مكلفة جدا بل أحيانا مستحيلة.

 

تتوسع المدن في الدول النامية بشكل عشوائي. الأجور أفضل للفقراء لكن تكلفة السكن تأكله وبالتالي أوضاع الفقراء تسؤ. لا نشهد في أكثرية المدن في الدول النامية تقدم اجتماعي للعمال والفقراء. تتردى الخدمات الصحية بسبب الثقل السكاني المتزايد وعدم استطاعة المدن تطوير الخدمات المتنوعة. المشاكل تسبق الامكانات وبالتالي تسؤ أوضاع المدن مع الزيادات السكانية المستمرة. أما القطاع الخاص، فينهض على حساب عمالة فقيرة تريد العيش علما أن الانتاجية ليست مرتفعة. الأجر المتدني لا يكون دائما ربحا للشركة، اذ غالبا ما يترافق الأجر الضعيف مع انتاجية وفعالية منخفضة.

 

في أكثرية الدول، نشاهد انحيازا واضحا نحو المدن. بالرغم من أن ما ينفق على التطور المدني غير كاف، انما يبقى أفضل بكثير مما ينفق على القرى والريف وهذا خطأ كبير. يدفع هذا الواقع السكان الى النزوح الى المدن أي يعمق الفقر ويترك الريف مهملا ومتأخرا. اليوم وبسبب التكلفة المعيشية المتزايدة، نرى زراعة تنتعش داخل المدن ليس للبيع والتصدير وانما للاكتفاء الذاتي بسبب ارتفاع أسعار الغذاء. يستفاد من مساحات الأرض الصغيرة في المدن وأحيانا على السطوح وفي حدائق المنازل لانتاج بعض الزراعات المناسبة. هذا احياء للزراعة وفي نفس الوقت يؤشر الى وعي شعبي كبير لأهمية الانتاج الزراعي في الحياة الاقتصادية العامة، لعلها تساهم في تغيير السياسات العامة لمصلحة الزراعة.

 

أظهر زلزال بيروت درجة اعتماد الاقتصاد اللبناني على حيوية العاصمة وقوتها. هذا واقع لكن في نفس الوقت يساهم في توعيتنا كمجتمع على ضرورة تطوير بقية المدن وحتى الريف لتنويع الاقتصاد وتشجيع اللبنانيين على البقاء فيه لمصلحة كل لبنان.