IMLebanon

بيروت والحبّ والله والعدالة في 2021

لم يبقَ في بيوتها أطباق تكسرها ليلة رأس السنة

 

 

وماذا ينتظر بيروت بعد؟ ماذا ينتظرها في 2021 ولم تشهده في 2020؟ ستّ الدنيا تخسر أولادها، فلذات كبدها، كما المركبة التي خسرت مكابحها، وعبثاً تحاول “فرملة” سقوطها فتضرب، وهي تتجه نزولاً، يميناً ويساراً، حاصدة من تُحب ومن يُحبها. بيروت تذهب الى 2021 دامية الهيكل والقلب، متعثرة، غير مستقرة، وقابعة على نار وبارود. بيروت في 2021 يعوزها الكثير لتصمد ويُكتب لها العمر الجديد. فهل تكتب في السنة الجديدة نهايتها وتُطمر أم تنتفض وتكتب، بالدمِ والصبر، مستقبلاً جديداً؟

 

تودّع بيروت سنة 2020 جثة هامدة بلا حياة، كما قطعة الثلج، يتفرج عليها من بقي “يتنفس” من أهلها، محاولين انتشال بعض الأمل من قلب الدمار. عبثاً. فيغلقون عيونهم علّهم يغطون في النوم ويحلمون. اللهمّ ألاّ يكون الإتكال على الأحلام بمثابة النوم طوال الحياة.

 

هو الغروبُ يتسرب في كانون. الميناء المنبسط على واجهة بيروت البحرية يستمر بعد خمسة أشهر إلا أربعة أيام أرضاً محروقة، لمسها الشيطان ودافع عنها الله، وبين بين، بان مشهد جديد آخر لمدينة بيروت، شقلب فيها أشياء كثيرة. لكن، هل ما زال “الحب في بيروت مثل الله في كل مكان”؟ نزار قباني قال هذا ذات يوم. فلنبحث في الأرجاء، مع قدوم 2021، عن بيروت والحب والله.

 

شجرة ميلادية رُكّزت قبالة ما تبقى من إهراءات قمح في المرفأ، مزينة بأسماء ضحايا مجزرة الرابع من آب. نقرأ فيها. ويمرّ الوقت ونحن نتابع القراءة بين الأسماء والقصص والمآسي. تصل صبيّة تحمل باقة ورد بيضاء. تقف امام الشجرة. تصلي. تمسح دموعها. وتغادر. ثمة نجوم ذهبية في أعلى الشجرة. والنجمة هي الرمز السماوي للوعد، فنجمة بيت لحم كانت علامة الوعد التي قادت المجوس الى مكان ولادة المسيح. ننظر الى السماء. ثمة نجمة لكل شخص في العالم. ثمة نجوم كثيرة أصبحت صلة وصل بين من باتوا في السماء ومن يستمرون على هذه الأرض.

 

العالم متغيّر لكننا في بقعة لكثرة ما دارت عقاربها الى الوراء داخ مواطنوها وأصبحوا يمشون على الطريق بلا وعي. ندوس الفرامل منعاً من الإصطدام بامرأة تقطع أوتوستراد الكرنتينا غير مبالية بشيء. وكأنها تتقصد تعريض نفسها الى الخطر فتموت وترتاح. نلاحظ وجود عناصر الجيش في مناطق المدور والكرنتينا والجميزة ومارمخايل أكثر من سواها. نتجه نحو المستشفى الحكومي في الكرنتينا الذي شلّعت جريمة 4 آب كثيراً من حناياه فنراها عادت للعمل. قسم الأشعة. قسم مختبرات الدم. مركز كارلوس سليم للطفولة. ثمة شجرة ميلادية وُضعت في صدر ردهة الإستقبال وعلى رأسها أيضاً نجمة. وهناك، في الجوار، في مكان الحديقة العامة التي كانت تظللها أشجار الغار، ورشة بناء مبنى جديد وضع حجر الأساس له، كما تقول لوحة التدشين المعلقة: وزير الصحة وائل ابو فاعور في 11 تشرين الأول عام 2016. هذا المبنى الملحق ممول بقرض من البنك الإسلامي للتنمية.

 

لبنان كله مموّل من الخارج في ظلّ وجود حكومات فيه لا تعرف إلا أن تأخذ. بيروت ستعيش من جديد. نُكرر ذلك بلا هوادة لكن ما ادرانا بأسرار بيروت التي تطلب، منذ نشأت، براهين حبّ. ومأساتُها وجود كثير من الخونة فيها لا يميزون بين الحبّ والشرّ. ثمة صدى فرح في الكرنتينا. هناك، في الحديقة العامة، تُنظم اليونيسف مسابقات وقراءات لأطفالٍ كل ذنبهم أنهم كانوا قبالة العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت. ننظر في عيون هؤلاء الصغار. نُحدق أكثر. فنتأكد أن الفرح ينطلق دائماً من هؤلاء.

 

 

نتجه مجدداً الى المرفأ. نقف قبالته وننظر الى القلب، الى الداخل، المليء بالأسرار. خمسة أشهر مضت ولم تمتدّ يد إنسان، بالفعل لا بمجرد الأقوال، لإزالة مشهدية الدمار. كلّ التفاصيل تستمر شاهدة على هول ما تعرضت له بيروت. نرى “ونوشاً” محروقة وبعض الونوش الناجية تعمل. ونرى بعض الشاحنات تذهب وتجيء وكثيراً كثيراً من المستوعبات وبواخر باتت خردة تغمر أجزاء من أجزائها المياه المالحة. ميناء بيروت يحاول أن “يقوم” من الموت لكنه يستمرّ في موتٍ سريري. تصل عائلة. ينزل أفرادها. يقفون قبالة الإهراءات ويلتقطون “السيلفي” قبل أن يغادروا الى كندا.

 

نتجه صوب الجميزة ومارمخايل والأشرفية… “بيروت ما بتموت”. عبارة تطلّ عبر لوحات إعلانية. نصدق؟ كثيرون ما عادوا يصدقون، بعد كل ما أصاب بيروت ولبنان، شيئاً. سنة 2021 الآتية سيكون من الصعب عليها أن تمحي كل ما فعلته 2020 بنا. نمرّ من أمام قصر بسترس. نتمهل. ننزل. نراقب. ثمة عمال “ينغلون” من أجل إعادة هذا البيت البيروتي التاريخي المشغول بعناية شديدة الى عصره الذهبي قبل أن يتشلع. سقوف القصر ترتفع ثلاثة أمتار، وهي مرسومة بالجص والخشب. وأصحاب البيت أكدوا على وجوب إعادة البيت كما كان. فحتى “مفصلات” الأبواب العتيقة توضع مكانها مفصلات من نفس النوع. ومثلها “برايز” الكهرباء. ثريات رائعة. رسومات جدرانية. وجدارية عند المدخل كُتب عليها “ما شاء الله”.

 

بيروت يا بيروت كم عشتِ عصوراً ذهبية وعصوراً خشبية! فماذا سيُكتب لك في 2021؟ هل علينا أن نسأل المنجمين أم أن نتكل على الإرادة والتصميم والسماء؟ نغادر قصر بسترس الذي قرر مالكوه إعادته كما كان، بتفاصيله الصغيرة قبل الكبيرة، ونرى قرب الباب الخلفي “بابا نويل” صغير ونجمة. النجوم في كل مكان.

 

هناك، بالقرب من المكان، في قلب الأشرفية، يوجد عمال سوريون. نسأل أحدهم: من أين هو؟ يجيب: من القامشلي. ولماذا لا يعود الى سوريا ما دام الكلّ في لبنان يتذمرون من الأسعار والأحوال؟ يجيب بتهكم وبكثير من الواقعية: “ننتظر أن تغادروا أنتم فيُصبح لبنان لنا”. نبتسم؟ نضحك؟ نحزن؟ نصرخ؟ أدرنا ظهرنا وابتعدنا.

 

بيروت يا بيروت يا ست الدنيا يا بيروت. نحن في منطقة مارنقولا شارع 61. شجرة ميلادية على درج مارنقولا، وكثير من القصور والبيوت التي تروي قصص عائلات بيروتية قديمة، لم يتخيل أصحابها ولا جيرانهم أن الحال في 2020 ستؤول الى ما آلت إليه. بيروت تقوم من الموت هذه المرة أيضاً لكن ببطء شديد. هنا التاريخ ومن ليس له تاريخ ليس له مستقبل. فهل تعدّ بيروت نفسها للقيامة في 2021؟

 

 

المشهدية في مارمخايل تختلف. البيوت أكثر تواضعاً بكثير. وبراثن الشرّ تستمر تبصم كل التفاصيل. مغارة ميلادية كبيرة على طول رصيف مبنى كهرباء لبنان. هنا، في هذا المبنى، في طبقته رقم 12، ماتت ماري طوق بعد انفجار العنبر رقم 12. الرقم شؤم أم سياسيونا هم “أهل الشؤم”؟ شظايا الزجاج ما زالت بعد خمسة أشهر مكدسة على الزوايا. ردم، دمار، حديد وعيون تائهة. “شلاح طائفتك على ابواب بيروت”. “بتدمّر منعمّر”. “لقد دمّر الوحش قريتي”. “دمروا بيتي وشغلي وحياتي”. “ما تحملوا الطلاب كلفة الإنهيار”.. عبارات كتبت على كراتين وعُلقت على بيوت بيروت. رجلٌ يقوم بإصلاح شبابيك منزله التراثي الخشبية بنفسه. بيوت كثيرة لا تزال تنتظر أعمال الترميم. بيروت ستستقبل سنة 2021 بكثير من الألم على الرغم من كل الأيدي التي سعت الى بلسمة الجراح وزرع إبتسامات في الأرجاء. فوجعها هذه المرة أتى مضاعفاً لأن الصفعة من أهل البيت يكون لها وقع أكبر. فكيف إذا أتت على شكل آلاف الأطنان من النيترات؟

 

أمام مخفر الجميزة وضعت شجرة ميلادية يحوطها كثير من الركام. وفي الجوار عبارات من نوع: “الجميزة ما بتركع” و”الجميزة راجعة أحلى مما كانت”. نُصدق؟ الجميزة وعدت أن تعود في 2021 أحلى مما كانت، لكننا “غمضوا عين فتحوا عين” نُصبح في 2021 فماذا ينتظرها وينتظر بيروت ولبنان؟ ربما يتمثّل الجواب الحاسم بعبارة بالإنكليزية: our space is destroyed but we are not. فمن بقوا أحياء سيُعيدون ضخّ الحياة.

 

القديس مارالياس شاهر سيفه في كثير من شوارع وأزقة بيروت. نرسم اشارة الصليب ونتابع وداع سنة واستقبال سنة في مدينة كُتب لها على مدى حياتها، أن تعيش ويلات وزلازل وأمراضاً وحروباً وكم من مرة ومرة ظنناها ماتت، انتهت، لكنها في كل مرة كانت تنفض الغبار عن نفسها وتقوم. لا، لسنا نتحدث عن طائر فينيق، ملّ منه العالم، لكننا نتكلم عن شعبٍ أدهش مراراً الكرة الأرضية. فهل سينجح هذه المرة أيضاً؟ هل سيبرهن في 2021 عن عناده السرمدي؟ وجوه البيارتة باهتة غاضبة لكن لن نراهن اليوم، مع بداية 2021، إلا على العناد لا الإستسلام. فلننتظر.

 

قهوة المعلم أرتين نفضت الدمار والغبار وعادت تعمل. مبنى سليم غلام التراثي يُرمم. وبيت ناجي مسعود، المصوّر الفوتوغرافي الذي أعطى المهنة من اللحم الحيّ، عاد إليه النبض وحبل الغسيل عاد ليمتلئ بألوان قوس قزح. الحياة تعود الى المباني البيروتية التي شلعها شرّ 4 آب. هناك طبعاً بعد الكثير. وهناك تحذيرات على طول الطرقات: إنتبه رافعة… إنتبه خطر وقوع أشياء… لكن، ما يُخشى عليه أكثر من أي شيء هو “مشاعر” ناس بيروت وكل من أحبوا بيروت وكل من ينامون ويستيقظون على صوَر وجوه ضحايا مرفأ بيروت الذين لن يصبحوا في طي النسيان. فهل سينجحون في 2021 في طرد اليأس واسترجاع الأمل؟ ها نحن نستقبل السنة الجديدة وكم حملها ثقيل! وملف التحقيق في جريمة 4 آب ستحمله، إطمئنوا، السنة الجديدة