بيروت، تلك المدينة الجميلة المطلة على البحر المتوسط، التي لطالما سحرت الجميع القريب والبعيد العدو والصديق بأزقتها وشوارعها الضيقة وأبنيتها القديمة التي إنسجمت مع غزو التمدن العمراني الحديث، فشكلوا رونقًا خلابًا يجمع الماضي مع المستقبل، كل ذلك سببه إجتياح العولمة المادية الحديثة، حتى في تعقيداتها السياسية كانت مركزًا للثقل العالمي وأهتمامه وبات ذلك جليًا في المؤتمرات الدولية بسبب أهميتها من الناحية الجغرافيا السياسية وموقعها في قلب العالم الذي تكلم عنه كسينجر، ولكن للأسف لقد أضحت اليوم يتيمة على كافة الاصعدة، فلقد أنهكها الإنهيار الاقتصادي الرهيب والصراعات اللامتناهية وإنفجار المرفأ وإنحلال القيم الإجتماعية حيث أصبحت مدينةٌ تشبه الهيكل المفرغ من الاعمدة القابل للسقوط، جمالٌ مادي هش مُفرغ من الروح، حيث لم يعد هناك شعراء ولا كتّاب ولا منظرين ولا مفكرين ولا أي مظهر من المظاهر الحداثية التي لطالما تمتعت بها، هذه المدينة تعاني اليوم من صدماتٍ سياسية أثرت على بنيتها الإجتماعية والفكرية وأصبحت غير قادرة على إنتاج أجيالٍ القادرين على النهوض بهذه المدين ة المنكوبة، فسألت نفسي أين هو ربيع بيروت؟
كلنا نعرف مكامن الخلل الذي تعاني منه المدينة، فإنه خلل بنيوي إجتماعي وثقافي أدى إلى خلل سياسي وإداري إضافةً طبعًا إلى التجاذبات السياسية التي ساهمت بشكلٍ كبير في زيادة الخلل الحاصل، كما أن الصراعات الإقليمية ألقت بظلالها على المشهد حيث نرى الرايات السود ترفرف فوق أعمدة الكهرباء حيث زادت من عتمة المدينة، ولكن البعض دائمًا بغاية التهرب من مسؤوليته تجاه المدينة يتحجج أن لا خلاص لنا إلا بقرارٍ خارجي، قرار التغيير بيدنا نحن وليس سوانا، فعودة رونق بيروت يكون بذهاب الخريف ومجيء الربيع، كلمة ربيع تعني الجمال والنهضة والإستنهاض مجددًا والصحوة والحداثة الفكرية التي تفتقدها بيروت اليوم، وكل هذا يعود من خلال طريقتين وهما إستعادة الهوية والنضال السياسي.
النضال السياسي
منذ نشأة كيان لبنان السياسي ونحن نعاني من أزماتٍ لا متناهية ولا حصر لها بسبب طبيعة النظام السياسي القائم الذي هدفه توليد الازمات وإبقاء التشنج سيد الموقف،كي تبقى البلاد في فوضى خلاقة مستدامة مما ادى إلى تصدر المشهد السياسي البيروتي طبقاتٍ برجوازية بعيدة عن الواقع المجتمعي بوجعه، وهذه الطبقة غلّفت نفسها بالعديد من الحمايات منها الاجتماعية والدينية مع الأمنية بطبيعة الحال، فالحريرية السياسيىة المسيطرة على المشهد السياسي في بيروت منذ نشأتها قامت بالسيطرة على دار الفتوى المرجع الديني الذي قام بترويض الشارع بسبب طبيعة البيروتي المحافظ والذي يقّدر المشايخ ويحترمهم، أما الشق الاجتماعي قام رفيق الحريري بتأسيس ما يُعرف بإتحاد العائلات البيروتية وهي أشبه بلوبي عائلي هدفه الحماية الاجتماعية والعائلية لأن بيروت مجتمع أهلي للسياسات الحريرية وصبت كل جهودها في تجير أصوات العائلات كلها لصالحهم، فلقد أصبح الإتحاد السيف الذي تستخدمه الحريرية لخدمة سياساتهم، وهنا تكمن الخطورة لأن هذا الاتحاد إختصر كل العائلات البيروتية العريقة التي تناهض وتعارض نهج الحريرية كسياسة إقصائية وإظهار أن كل بيروت تؤيد هذا النهج، ولتغيير هذا النهج المسيطر على الحياة السياسية والركود الفكري، لا بد من النضال المناهض لهم، فيخرج البعض ويقول أنه في هذا الوقت وبسبب التشرذم الحاصل إن أي حركة إعتراضية أو إنشاء بديل عن هذا الجسد المنبطح هو بمثابة زيادة التشرذم والإنشقاق داخل البيت الواحد البيروتي، ولكن هذا تسخيف وغير واقعي لأن هذا الكيان الحالي غير موجود أصلاً غير أنه ينفذ قرارات بيت الوسط حصرًا، فهو مسلوب الإرادة، وبهذه الطريقة يكون تم تدجين الشارع البيروتي وإسكات أي صوت معارض، وعليه لا بد لنا إما بالدخول إليه وقلب المعادلة من داخله إما بتأسيس كيان يجمع عائلات بيروت كي يكونوا لكم قرارهم الحر والسيد المستقل عن أي قرار سياسي. كما أننا علينا إنتاج أحزاب سياسية هدفها كسر النمطية السياسية القائمة والخروج من الواقع الأليم عبر النضال السياسي، ولدينا الفرصة اليوم لأن الناس غاضبة وساخطة على الأحزاب القائمة والإنتخابات على الأبواب، وهنا يبدأ ربيع بيروت، بإنتخاب وجوهٍ جديدة تتصدر المشهد السياسي وتعرف هموم الناس وشبابها بكل تفاصيلها ووجود إتحادٍ للعائلات مستقل يدعم عند اللزوم ويقف وقفة رجل عند اللزوم أيضًا.
استعادة الهوية
أما عن الهوية، فنحن نعاني من فقدان هويتنا الوطنية والقومية، بسبب سياسة التهجير الممنهجة لأبناء المدينة، لقد إنسلخت معظم معالم المدينة حيث إذا وصل أحدهم إلى مطار بيروت يعتقد نفسه إنه في طهران أو في قم، حيث صور الخميني وقاسم سليماني منتشرة على طول طريق المطار،، وهذا كله سياساتٍ متبعة ومقصودة من بغداد مرورًا إلى دمشق وصولًا إلى بيروت، كي تتغير هوية المنطقة كلها عمومًا وبيروت خصوصًا، هذا نوع من التطبيع وفرض ثقافة معينة بالقوة وهذه جزء من السياسة التفريسية، أما بالنسبة للتغريب، نرى شبابنا لا يعرف اللغة العربية إلا القليل وكتابته تتراجع رويدًا رويدًا مما يجعله يخجل من ثقافته وهويته العربية بسبب النكاسات التي تعرضت لها الشعوب العربية، ولكن لا بد لنا من الحفاظ على هوية بيروت المشرقية العربية المتجذرة في جدران الابنية القديمة، فكل شارع من شوارعها له تاريخٌ من النضال ضد الأفرنجة والصليبين والمغول وكل الدولة التي غزت المشرق العربي كي تغير وجهه ولكنه بقي عربي، فمن علامات الربيع هو إسترداد الهوية الثقافية ووجهنا العربي الذي يجب أن لا نتخلى عنه مهما كلف النضال.
ربيع بيروت يبدأ بإسقاط نواب العاصمة وكل الإتحادات العائلية الداعمة لتلك الطبقة الحاكمة ومواجهة الفرنسة والتغريب بالتعريب والعروبة الحقيقية، سوف تنهض بيروت وسوف تسقط الاستحمار والاستعمار.