Site icon IMLebanon

هل يتمكن «التغييريون» من إعادة بيروت عاصمة للقرار السياسي!؟

 

إن عواصم البلدان المختلفة، تشكّل المؤشر الأساسي والأكثر تعبيراً عن واقع تلك البلدان على الصعد كافة، كون للعاصمة وظيفة مركزية للدولة ولمؤسساتها الدستورية والإدارية، ولحجم الدورة الإقتصادية والإنتاجية، ولمدى الإستقرار الإجتماعي والمعيشي بكلّ مندرجاته لتلك البلدان، كونها، أي العاصمة تختزل بمركزيتها واقع دولتها، وتحدّد مسار الإتجاهات والخيارات السياسية، بما في ذلك الأنظمة غير الديمقراطية، أو الأنظمة التي تمارسها جزئياً وبحدّها الأدنى.

 

إنطلاقاً من هذا المفهوم التوصيفي الدال على دور العواصم الحاسم في تظهير المسار السياسي للدول وأنظمتها، يمكن فهم وتفهّم أن من يملك القرار السياسي سواء ديمقراطياً أو غير ذلك، هو من يتحكم بالحكم وبالسلطة (بمعناها الدستوري) على حدٍّ سواء.

 

وهذا التملك لا يعني بالضرورة شكلاً من أشكال الإستئثار والإستحواذ التفردي للسلطة، على قاعدة إلغاء وإقصاء باقي القوى الحيّة ذات التمثيل الشعبي، بل هو يندرج في السياق الدستوري للحكم عبر إنتقال السلطة بالوسائل الديمقراطية التنافسية بين الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة، (خصوصاً الإنتخابية منها) لتنفيذ برنامج سياسي محدّد، يعبّر عن التوجهات الأساسية للفريق السياسي الحاكم.

 

إن هذه التوطئة تشكّل مدخلاً لجوهر وعمق الموضوع الذي سنتناوله عن موقع ودور بيروت التوحيدي الجامع في المعادلة الوطنية التاريخية منذ نشأة دولة لبنان الكبير، وعن مستقبل هذا الدور في ظل الظروف الكارثية غير المسبوقة التي يعيشها لبنان الوطن والكيان والدولة، من جراء هذا الإنهيار «الجهنمي» الشامل والمتسارع الذي يعيشه، بفعل تداخل العوامل الخلافية الداخلية العميقة مع الإنعكاسات الخارجية للحروب التي تضرب دول الإقليم المحيطة وصراعات الدول المؤثرة على مسارها، وسط الحديث عن تغيير جذري مرتقب لخارطة المنطقة «الجيو-سياسية» بأسرها، التي بالتأكيد ستشمل لبنان، بينما يرى عدد من المحللين أن الوظيفة التي أنشيء من أجلها قد إنتفت!!!

 

لا يختلف إثنان على التراجع (ربما المتعمد والممنهج والمنظم) للدور الريادي المتقدم لبيروت (عاصمة قرار لبنان السياسي) منذ سنوات، مقروناً بإضعاف مؤسساتها التاريخية على الصعد كافة (دينية، إجتماعية، تربوية، صحية، تنموية، الخ…)، مقروناً بالتدمير المتعمد لبنيتها التحتية والفوقية ومرافقها العامة التي باتت شبه مشلولة، فضلاً عن طمس كلّ معالمها الحضارية، وضرب حركتها الإقتصادية (المتوقفة عجلتها) بالصميم، وصولاً إلى الحالة المعيشية المزرية المذلة التي يعيشها أبناؤها وأهلها والمقيمون فيها من مختلف فئات وشرائح المجتمع البيروتي(!) في ظل غياب وتغيب زعاماتها وأقطابها وقواها السياسية عن التأثير الفعلي والجدي في القرارات السياسية التي تتحكم بمسار الأحداث والتطورات، بما في ذلك المواقف والخيارات الوطنية – السيادية، بشكل متدرج منذ إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بفعل الهيمنة المحكمة والمطبقة على كل مقدرات الدولة، ومصادرة مؤسساتها الدستورية والأمنية والإدارية والمالية، وبالتالي الإمساك بقراراتها السياسية الإستراتيجية!!!

 

ومما زاد من الواقع البيروتي السياسي والمجتمعي ضبابية وإرباكاً وضياعاً، الخطوة المنتظرة التي أقدم عليها الرئيس سعد الحريري بتعليق العمل السياسي وتياره، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ لبنان السياسي، ما زال يكتنف جوانب كثيرة منها الغموض والتحليل والإجتهاد.. بغض النظر عن صوابية خياراته السياسية من عدمها، لا سيما ما يتعلق منها بالتسويات التي أبرمها مع خصومه، التي إعتبرها منتقدوه إنها تنازلات مجانية، أضعفت موقع الرئاسة الثالثة، في حين كان يرى فيها درءاً للفتنة المذهبية، وتحصيناً للساحة الداخلية من إنتقال حريق المنطقة إلى الداخل اللبناني؛ دون أن يلاقيه أحد من باقي الأطراف في منتصف الطريق، مما تسبب بخلل كبير في الميزان الدقيق للمعادلة الوطنية اللبنانية!!! (ستكون تلك الخيارات والمواقف، وربما مسيرته السياسية برمتها، موضع نقاش جدي موضوعي من قبل المحللين والباحثين وأصحاب الرأي في وقت ما، بعيداً عن الإنفعالات الفورية).

 

بكلّ الأحوال، فإن الرئيس الحريري تحمّل مسؤولية خياراته، معاقباً نفسه وتياره السياسي بتعليق العمل السياسي، والتخلي عن «الزعامة البيروتية»، ولو إلى حين؛ لعل خطوته هذه تشكّل فرصة لباقي القوى السياسية المؤثرة ولو بتفاوت من إتخاذ قرارات جريئة، من شأنها إخراج لبنان من الجحيم.

 

المهم في الموضوع، أن الحريري في خطوته التي أقدم عليها، أفسح المجال واسعاً أمام القوى «التغييرية» الجدية، بعدما أزاح نفسه وتياره من أمامها، لكي تثبت جدارتها وقدرتها الفعلية على إحداث التغيير المرتجى التي طالما نادت به، من خلال إقناع البيروتيين، بأنها تشكّل البديل الواعد، لإعادة دور بيروت الريادي في أن تكون مجدداً «عاصمة القرار السياسي»، وبالتالي إزالة شعور المجتمع البيروتي بالإحباط واليأس والتهميش.

 

فهل تكون القوى «التغييرية» على قدر التحدي؟ وتتمكن من إنجاز ما لا تتوقف عن المطالبة به؟ وقبل ذلك كلّه هل ستتمكن من إقناع الناخب البيروتي، (المتهم بالتكاسل الإقتراعي!) بالمشاركة الكثيفة بالعملية الإنتخابية والإقتراع لصالح لوائحها، في ظل التوانِ العام المخيم على الأجواء البيروتية، الذي هو أقرب إلى شبه مقاطعة، (بحسب إستطلاعات الرأي).

 

هذا الواقع، يقتضي من القوى «التغييرية» أن تطرح برامجها العملية غير التقليدية والبعيدة عن الشعبوية والشعارات «الكلشيهات»، وتبيّن خططها الإنقاذية وكيفية رفع الغبن والإهمال السياسي والإنمائي والإقتصادي عن بيروت، وبالتالي إنتشال أهلها وأبنائها والمقيمين فيها من حالة البؤس الإجتماعي والإحباط والإنكسار المعنوي، مقرونة بآليات عمل تظهر قدرتها الجدّية في وضع تلك البرامج موضع التنفيذ رغم كلّ العراقيل والصعوبات، وصولاً لإنتزاع إستعادة بيروت لدورها المحوري في المعادلة السياسية الذي يعبّر عن توجهات وتطلعات أبنائها.

 

بالتأكيد المهمة بالغة الصعوبة، لأن المزاج البيروتي صعب جداً، وليس من السهولة إقناع الناخبين البيروتيين لتبني إتجاهات سياسية محدّدة، خصوصاً في المراحل والمحطات المفصلية، مع ضرورة الأخذ بعين الإعتبار الخصوصيات المحلية البيروتية المعقدة من مناطقية وعائلية ومجتمعية، فضلاً عن تراثها التاريخي السياسي الوطني الوحدوي الجامع، والعروبي المنفتح والمتنور، البعيد كلّ البعد عن الغلواء الفئوية الضيقة بكلّ صورها وأشكالها.

 

بيروت اليوم تعيش واقعاً شبيهاً بما عانته من إستهداف وإستباحة خلال الحروب التي شنت عليها، أو التي كانت مسرحاً لها من قبل الميليشيات الطائفية والمذهبية من قوى الأمر الواقع، التي تنازعت فيما بينها للهيمنة عليها وعلى قرارها السياسي.. ولكن هذه المرة ليس بإستخدام السلاح الحربي، بل من خلال التهويل به، فضلاً عن سلاح التجويع والقهر والإبادة الإجتماعية.

 

وما يعمّق المأزق، أن الساحة البيروتية إزاء الفراغ السياسي، باتت مفكّكة ومشرّعة، وثمة خوف حقيقي من إحتمالين يلوحان في الأفق:

 

– بزوغ جماعات «أصولية» تحرّكها جهات إستخباراتية خارجية، في محاولة لملء الشغور السياسي و«الزعاماتي»، بهدف تأجيج الفتنة المذهبية، التي بقيت إلى حدّ بعيد ملجومة ومحدودة الحجم.

 

– تبوُّء مقاعد بيروت النيابية أشخاص من الطارئين والوافدين إلى بيئتها السياسية والمجتمية، لا تمثّل الوجدان البيروتي، ولا تعبّر عن توجهاته وخياراته، تكون مدعومة من نفس المهيمنين على القرار السياسي، خصوصاً في حال إحتجب الناخب البيروتي عن الإقتراع، فعندها تكون الغلبة لـ«الرزم» الإنتخابية الممسوكة، والتي تدور في فلك تلك الجهة المهيمنة والممسكة بزمام الأمور.

 

من الآن وحتى موعد الإستحقاق الإنتخابي في أيار المقبل، وما يمكن أن تشهده الفترة الفاصلة من تطورات وتحولات في ما يتعلق بالملفات الإقليمية الشائكة، فإنّ البيروتيين يعيشون هاجساً حقيقياً وقلقاً بالغاً على مستقبل مدينتهم السياسي والتمثيلي، في حال لم تتمكن قوى التغيير من إنتاج مشروع بديل، قادر على ملء الفراغ الكبير(!) فتصبح بيروت بلا غطاء، وبالتالي فاقدة لدورها التاريخي المكوّن للكيان والميثاقية، خصوصاً وأنه يلوح في الأفق كلام كثير (يجب أخذه على محمل الجد) بأنه لا محالة من مؤتمر (تحت أي مسمى) لإدخال تعديلات على التوازنات الدستورية، بما يتلاءم مع تغيير ميزان القوى في المنطقة، متى نضجت ظروفها…

 

عندها ستكون مشاركة بيروت في ذلك المؤتمر، في حال لم تستعد قرارها السياسي والسيادي ودورها الريادي كـ«عاصمة للقرار اللبناني»؛ «كالأيتام على مآدب اللئام»!!!

 

* إعلامي