سقط الرئيس رفيق الحريري صريعاً في قلب لبنان وكان الرجل مسكوناً بالفعل بأحلام وطموحات لطالما ذكّرتني وقد تذكّركم جميعاً ب بمحمّد علي باشاباني الأسرة العلوية وحاكم مصر( 1805-1848) والمعروف بـ «عزيز مصر» وهو باني مصر الحديثة. سألت الحريري يوماً إن كان معجباً بتجربة هذا القائد التاريخي الذي لم يبقَ له في الأذهان وفي كتب التاريخ المدرسيةالعربيةسوى سطرين تقولان بأنّ «محمد علي باشا حاكم شقّ الطرقات وعبّدها وبنى الجسور والقلاع والحصون». سألته إن كانت تُغريه التجربة نفسها في لبنان وطن نكران الجميل والفضائل، أجابني وكأنّني أصبته،وعقّب ضاحكاً: «طرقات وأوتوسترادات وجسور فهمنا، لكن لا…لا…لا حصون ولا قلاع في بيروت إلاً للّذين دمّروها وقد يدمّرونها).
يا لبيروت العاصمة العربية السمراء والغربية الشقراء المتعددة الألوان والشفاه الكلمات والخطب والمواقف ومع كلّ ناهضٍ وواقف بصيغة الجمع.تظهر وتُصدّق أبداً بأنّهابقعة صباح الخير من فم العالم، لكنها عاصمة مؤقتة أبداً يختلط فيها الغرب بالشرق والشمال بالجنوب والإسلام بالمسيحية واليهودية وبكلّ طوائف العالم وأحزابه المستوردة المتوارثة، ممّا لا يمكننا تصفيته أو رسم لوحاته التي لا تحصى تبديلاً وتنافراً وأقنعة وتدميرا.
فشلت بيروت ويستحيل عليهاادّعاء خصوصياتٍ فارغة على أيّ عربي أو غير عربي تجعلها تلك الجزيرة الميتة المنعزلة عن هذا العالم الشاسع المحيق بها. هي لا يحق لها، كما ينطق التاريخ القديم والحديث،لا بالتسويات ولا بالمساومات. لطالما كانت موئلاً بل مطبخاً لأجيالٍ متعاقبة من الثوريين والتغييريين والحزبيين الرافضين لواقعهم بحثاً عن الحرية في لبنان بلا ألفٍ ولام والديمقراطية التي أوكلوها إلىمعظم وسائل الإعلام والإعلاميين جسوراًمرّ عبرها الكثير الكثير من أجيال القناصل والسفراء الأجانب بزياراتهم وتحركاتهم وخطبهموسلخهم لمضامين الدبلوماسية. لم ولن يحلّ أربطتها ممثلو العالم كلّه حتى ولو أقاموا في أرضها وتكلّموا لغتها وتزوّجوا من بناتها وفيها وسهروا في قصورها وقرّروا البقاء في بيروتحتّى بعد تقاعدهم والأمثلة كثيرة تنطبق على سفراء دول عُظمى.
أميل إلى القول التاريخي، أنّ بيروت كانت وبقيت وستبقى عاصمة عصيّة مفتوحة على الدنيا وستبقى قلقة جميلة معشوقة ومهددة على الدوام لكونها صارت مستوردة وليست في المكان المحدد،مع أنّ مُعظم أهلها اليوم لا يُطيقون أن تبقى عاصمتهم وبلادهم خطوط تماس واشتباكاتٍ إقليمية ودولية عنوانعجقتها وعاداتها وهوامها بالمستقبل الغامض.
لماذا هذا الكلام التوصيفي ؟
1- لإنّهاعاصمة تتجاوز وطناً يتجاوز حدوده بكثير. وعلى الرغم من كلّ هذه المخاطر والمحاذير التي نقع فيها مع كلّ استحقاق وحركة أو تبدّلٍ وتغيير تبقى في عين العالم طفلة لعوبة تدّعي القوة بالسياسات والإنتخابات والرئاسات والطائفيات البائدة فتُقيم في المواقد الباردة الجاهزة للإعتداءات والتلاعب بالنيران والوقوع في الحفر والصراخ بحثاً عمّن يُخلّصنا آمين.
2- لأنه كلام لا يرتبط إطلاقاً بمناسباتٍ أو بأحداثٍ معيّنة، بل يتوخى القفز فوقهابعدما تعبت في شرحها الأقلام والألسنة التي لا ضوابط نهائية لها لا سيّما في عصرٍ غريبٍ بدت فيه أرض البشرية واحدة من بلادنا سائبة وكأنّ لا حدود ولا جمارك ولا قوانين أو أنظمة تضبطها.
3- لأنّه كلام يوقظنا جميعاً نحو تفحص الماضي وواجب التذكير بالتواريخ المرّة المدموغة بحزمةٍ من العائلات السياسة مالكي الوطن والإعلام والمؤسسات ولبنان لكنهم ينفصلون جذرياً ومرضيّاً عن شعوبهم المتنوعين والمتشابكين في النظر إلى المنطقة العربية أو إلى العرب والإسلام حتى في التفاصيل والمتناقضات والمصالح التي تكاد تعميهم عن جوهر الأحداث الضخمة التي أدمنوها. فشلوا كليّاًبربطها لفهم مغازيها ومعانيها ومخاطرها القديمة والحديثة منذ سقوط الشاه في الـ1989 الى الحرب العراقية الإيرانية الى اجتياح دولة الكويت وخروج صدام حسين منها أمام عصا التحالف الأميركي الأوّل ثمّ وقف مسلسل الحروب الدموية في لبنان إنطلاقاً من مدينة الطائف ثمّ الإنتظار الدولي سنوات عشر(لماذا الإنتظار؟) للوصول ربّما الى تفجير البرجين الأميركيين لتُعبّد الأنقاض جادّات متفرعة نحو الحروب المفتوحة المبررة والمفهومة من احتلال أفغانستان ( المتروكة اليوم لمن؟؟؟) الى سقوط صدّام في حفرةٍ مشابهة لتلك الحفر التي خلّفتها صواريخه فوق «اسرائيل» ثمّ سقوط عراقه وشعبه في المستنقعات الدموية في الـ2003، الى خروج ليبيا من الشرق العربي وتغطيسها في هموم القارة الأفريقية وبؤسها وصولاً الى سقوط الرئيس رفيق الحريري ولبنان في الحفرة، ويا للحسرة في الـ2005،وانهيار الجسور ووعورة الطرقات الى خرائب سوريا ولبنان والعديد من البلدان والأنظمة التي تبعثرت في سيناريوهات رهيبة خطفت الأبصار والعقول لنستغرق في الإنقسامات من دون الركون إلى الحقائق والتواضع والهدوء والتعقل والإيمان مع حلول المخططات الدولية الكبرى.
4- لأنني أرى لبنان مقيماً في الحيرة والضياع حيال حمّى انتخابية برلمانية لا تعني شيئاً في بلدٍ يرقص فوق حدّ السيف،وعليه يُقبل العالم في ذكرى قيامةٍ مسيحية لا تنسينا فكرة الشرق الأوسط الجديد، ولا «الفوضى الخلاّقة» ولا الذين يرفعون سباباتهم ليقولوا علناً لا،مع أنّهم سبق لهم وطوّعوا أصابعهم التسعة سرّاً للآخرين.