منذ ولدنا وهم يخبروننا، قبل النوم، قصص بيروت الجميلة، “تفاحة البحر ونرجسة الرخام والفراشة الحجرية” وكم كنا نحلم. كبرنا. وها نحن اليوم نبحثُ في الأساطير عن معنى أن تكون “الجميلة” ملعونة؟ فهل هناك مدن “لعنتها” السماء فتزلزلت سبع مرات؟ بيروت جميلة جميلة. بيروت الخير والحبّ والثقافة والأدب والتاريخ والحقوق. صدقنا هذا وسنبقى نُصدّق، لكن يحقّ لنا أن نسأل: لماذا كُتب لها منذ وجدت أن تعيش بأنفاسٍ متقطعة؟
سمعنا عن مدينتي الزنا في إيطاليا “بومبي” و”قوم لوط” في الأردن الملعونتين لكن هل الفساد أيضا لعنة؟ هل الدولة الفاسدة تجعل من عاصمتها مدينة ملعونة غير قادرة على التنفس والحراك والحياة؟.
صحيح أن بيروت على خط زلازل تتحرك وهي انقلبت مرات وتصدعت وتهدمت في أعوام 1759 وفي 1261 و494 و502 و543 و551 و1956. تزلزلت بيروت ووقعت لكنها عادت وانتفضت ونفضت الغبار وقامت. لكن، إذا كانت الزلازل عقاباً جغرافياً فما حال العقاب البشري الذي جعل من بيروت تتحول الى أرض أشباح بعد كلّ أملٍ بقيامة وخلاص؟.
بيروت التي ذاع صيتها حسناً، ذات زمان، بات صداها اليوم خليطاً من الذعر والشفقة والمجهول وكثير كثير من الفساد. بيروت التي لم تهدّ عزيمتها الزلازل هل ينجح الفساد في “هدّ أعمدتها”؟ وهل كُتِب عليها ألا تنام ليس من السهر والحياة بل من الأرق والخشية على غدٍّ مفتوحٍ دائماً أبداً على حروبٍ صغيرة أو كبيرة؟.
الوسط الغاضب
نجولُ في وسطِ بيروت بعد يومين من المواجهات العارمة فنراها غاضبة. الخيم مبعثرة. ست أو سبع خيم في ساحة الشهداء. يتغيّر المشهد يومياً في هذه البقعة ووحدها خيمة “أم علي” صامدة عند أقدام تمثال الشهداء. فمن هي أم علي؟ بيروتية؟ نناديها فتطلّ ملتحفة بالسواد. هي والدة ثماني بنات وأربعة صبيان. دزينة أولاد في رقبتها صغيرتهم بتول. هي من الطريق الجديدة وما عادت تستطيع دفع ثمن ايجار منزلها فانتقلت الى “خيمة أم علي” في ساحة الشهداء. لا كهرباء لا غاز لا مدفأة في الخيمة و”جولات الليل” تتابعها “لايف” يومياً وهي تدور بين الخيم لإطفاءِ ما قد يشتعل بفعلٍ ما وتقول: البارحة، من يومين، حين حرق حرس المجلس الخيم في بيروت “عيّط” الجيش عليهم. تُخبّر هذا وهي تُلاعب “بوكر” الكلب الأشقر الذي انتقل معها الى الخيمة وهو، بوكر، يتدلل عليها. خيمة أم علي شكلٌ من أشكال العيش في بيروت بين “الحلو” و”المرّ”.
“أيها الدركيّ المسكين إنهم يخدعونك إستيقظ أيها الأحمق”. العبارة قد لا يراها الإنسان إلا في بيروت وجنبها وقف البارحة دركيّ. غريبة ٌ عجيبة هي حقاً بيروت. قبّ الياس، صور، كفرمان، طريق الجديدة، جل الديب. مناطق وقّعت شعارات ثوروية رافعة عنوان “كلّن يعني كلّن” وفي محاذاتها التقطنا شعاراً وقعّه شباب الضاحيّة: “حزب الله مرّ من هنا”. ثمة أمور لا نراها إلا في بيروت. ثمة رجال يشربون القهوة على رصيف “الكافيه” وثمة نساء يهرولن قبل أن نُمسي بعد الظهر وتعود لعبة الشارع بين الثوار والقوى الأمنية. ثمة بيروت ضائعة بين “البركات” و”اللعنات”.
خطوط تماس
“غزّة في البال، إيران في البال، بغداد في البال. كلنا ننتفض”. شعارٌ وراء زجاج مشظى.
“يو بي إي” يُزنّر نفسه بالحديد الفولاذي. المحال في وسط بيروت تحوط نفسها بالحديد المقوى. محال المجوهرات في أسواق بيروت وضبت الذهب والماس والساعات وجلس العاملون فيها في انتظار ما قد تؤول إليه تطورات النهار. بيروت الجميلة ثائرة دائماً أبداً. بيروت تثق أن الجبناء لا يكتبون التاريخ. التاريخ يُكتب بنضال من يعشقون الوطن ويحبون الفقراء. لكن، مشكلة بيروت أن كلّ من فيها يظنون أنفسهم تشي غيفارا.
بيروت مدهشة جمالاً واستثنائية في كلّ شيء، ففيها وحدها يواجه عسكريون عسكريين. خيمة العسكريين المتقاعدين في بيروت ترفع شعار “سرقتم الأمان من صناع الأمان” ومن يومين كادت عناصر أمنية تحرق خيمة العسكريين. فيا لها من بيروت!.
بيروت يا بيروت. نكبات وحصار ومذابح وقراصنة ومعارك وزلازل وطاعون وفتنة طائفية وجراد وتيفوئيد ومجاعة وشهداء من كلّ الطوائف والأديان والملل. كلّ من في بيروت حارب كلّ من في بيروت وكلّ من سقط فيها يُحسبُ شهيداً.
أتتذكرون تلك الإشتباكات بين الجيش اللبناني والفلسطينيين عام 1969؟ أتتذكرون تلك الأحداث التي وقعت عام 1958 بين أتباع الرئيس كميل شمعون والموالين لجمال عبد الناصر؟ هل نسيتم يوم علّقت الدولة العثمانية المشانق في ساحة بيروت في السادس من أيار عام 1916 وأعدمت 24 شهيداً؟ أولم تسمعوا بتلك المجاعة التي أصابت العائلات البيروتية عام 1914 بعدما صادر العثمانيون كل المحاصيل الزراعية؟.
ضدان وخريطة واحدة
بيروت ماتت وقامت عشرات المرات. بيروت مدينة ملعونة أم مدينة مناضلة أم مدينة حالمة ثائرة؟.
نسير في أرجاء المدينة، في قلب قلبها، في الوسط فنجدها خاوية خالية فارغة إلا من الصدى. بيروت هذه عاشت تجاذبات
كثيرة بين من أحبوها حتى آخر رمق وبين من رددوا: من الحبّ ما قتل. ندور فيها فنرى كثيراً من الأضرحة التي سال دماء من فيها ها هنا. نرى وروداً بيضاء تتواجه بشعارات قاتمة. ثمة ضدان دائماً منذ وجدت بيروت على الخريطة الأرضية.
نقلب في صفحات كتاب سمير قصير “تاريخ بيروت” فنراه مغرماً حتى الثمالة في بيروته. نقرأ أكثر فنتأكد أكثر أن هناك شيئاً ما في بيروت يجعل ما فيها يُغرم فيها ومن يُغرم فيها أكثر تطلب منه البرهان. وبرهان الكثيرين كان الموت. صدفة أم لعنة أم هو إصرار من يتربصون ببيروت على قتل عاشقي المدينة لتتهاوى؟ في كلّ حال سمير قصير ظلّ واثقاً حتى آخر رمق ومؤمناً ببيروت المنفتحة، المتنوعة، مدينة الموزاييك الإيجابي التاريخي والديني والحضاري والتعددي. بيروت الشرقية والغربية والحبّ والانتماء والمسؤولية.
يا الله يا بيروت. بيروت التي لو كان يمكن خلقها مجدداً لما ولدت إلا كما هي. كثيرون يجزمون بهذا.
ثورة ثورة ثورة. كلمة تتكلل بها كل حيطان بيروت. ثمة فرح وثمة غضب وهناك في الحالين تمرد وشموخ. هناك، في ساحة بيروت التي أطلق عليها ساحة الشهداء، مرّت في عشرين عاماً أحداث تؤرِّخ، لو مرّت في أي مدينة أخرى، لمسارات جديدة غير أن ما شهدته هذه المدينة كان يشتدّ ويخفت، يقوى ويضعف، واستمرّت التسويات المرضية لكل الأطراف سبيل حلّ. واستمرّ أصحاب المحال في أغلى بقعة في بيروت يبدلون في ألواح الزجاج وفي استراتيجيات اقتصادية وفي التمني ان يكون غدهم أفضل. مرّت السنين والاحتجاجات تتكرر مع تغيّر في الأسماء والعناوين. فما هذه المدينة التي تموت وتحيا عشرات المرات في اقل من عشرين عاما؟.
هل تتذكرون تلك التظاهرة في الثامن عشر من آذار عام 2005؟
ألا تتذكرون تلك التظاهرة في الرابع عشر من آذار عام 2005؟
نقيضان في اسبوع في بيروت واحدة. ندور في الأسواق البيروتية العتيقة التي تبدلت ملامحها كثيراً. هنا كان سوق سرسق وهناك سوق أياس وسوق إدريس والطويلة وبسترس وبيهم وابن النصر وسوق النجارين والعطارين واللحامين والصاغة وسوق الصرامي والحرير والقطن و”القزاز”. بيروت هذه الموصوفة بأم الشرائع طمرت سبع مرات وقامت سبعمئة مرة. فهل هي ذات قدرات خارقة؟ هل هي مدينة مباركة ام ملعونة؟ سؤالٌ لم نجد له بعد جواباً.
بيروت هذه لم تنس، منذ 17 عاماً، السابع من أيار. يومها رفعت جماعة السلاح في وجه جماعة. وفي نفس الشارع علقت يافطتان واحدة تعلن: “نحن شعب أكرمه الله بأبي بهاء نعيش أعزاء أو نموت شهداء”. وعلى مسافة قريبة منها، في بيروت ذاتها، علّقت يافطة مناقضة : “فإن حزبُ الله هم الغالبون”.
مذهلة بيروت. هناك من يقول فيها ليت الشيخ رفيق (الحريري) سلّح 34 ألف شاب وشابة بدل أن يعلّم 34 شاباً وشابة. وهناك من لا يزال يثق بوجوب أن يبقى العلم قبل الخبز دائماً.
مجلس النواب في بيروت. مجلس الوزراء في بيروت. وشارع المصارف الرئيسي في قلب بيروت. وهناك من حلم ذات يوم أن بيروت قد تعود لؤلؤة الشرق. إبن زغرتا إدمون أبشي، مالك أوتيل لو غراي، الذي أسس نجاحاته في جمهورية فنزويلا البوليفارية، قد يكون صدّق هذا واستثمر الكثير من ماله، الذي جمعه بعرق الجبين في لبنان وبيروت. وها هو استثماره السياحي البيروتي “لو غراي” يتحوّل مع كل “نقطة” يفترض أن تكون “فاصلة” في بيروت الى خط تماس! ألم تسمعوا أمس من يقول: تجددت المواجهات عند أوتيل لو غراي؟.
لا تنام!
وماذا نقول بعد عن بيروت التي تحققت معها مقولة “المدينة الشرق أوسطية التي لا تنام” لكن من القلق! بيروت هذه ثارت اليوم على فسادٍ مستشرٍ. بيروت هذه التي لم يبق من مبانيها المصنفة تراثية سوى 209 مبان (وربما أقل) بعدما كانت بموجب جردة أجريت العام 1995، بطلب من الوزير ميشال إده، 1016 مبنى. أماكن الذاكرة محوها. مسحوها. هناك من يتربص نخر بيروت، بالقلب، بإبرةٍ مسننة. هي تنزف ثم تندمل جراحها ثم تعود وتنزف.
نزار قباني كتب: الحبّ في بيروت مثل الله في كلّ مكان…
حتى الحبّ في بيروت مذهل. وهو، مثله مثل كلّ شيء، متغيّر متبدل يحيا ويموت ثم يعود ويحيا قبل أن يعود ويموت. فهل هذه قوة أم ضعف؟ هل هي لعنة أم بركة؟ هي في اختصار بيروت!