هنا “بيروت” و”مجتمع الكورنيش” والميدان
منذ شهر ونيف تغير الكثير في بيروت، وما عادت العاصمة تشبه ذاتها. فتحت قلبها للنّازحين قسراً عن بيوتهم وتعاطفت مع من لجأوا إليها، لكنها رزحت تحت ثقل الأعداد التي اجتاحت شوارعها وأرصفتها وبيوتها وكل ركن فيها. العاصمة التي كانت تعاني في الأصل من أزمات متراكمة وخدمات متهالكة وجدت نفسها بين ليلة وضحاها أمام دفق إنساني وجب عليها التعامل معه بمشاعر – الى حدّ بعيد – متناقضة.
عجقة سيارات خانقة في شوارع بيروت الرئيسية. زمامير وضجيج وضبابيّة. أرتال من الموتوسيكلات التي تتسلل بصعوبة بين السيارات العالقة في الزحمة أو المتوقفة على الأرصفة أو في خطوط ثانية على جوانب الطرقات. ناس أكثر من المعتاد يملأون الشوارع والطرقات والشرفات، ومقاه مكتظة برواد لم تعتد استضافتهم … هكذا بدا لنا واقع بيروت عبر جولة في أرجائها.
مظاهر مستجدة تلفت النظر ويوميات متعبة يعيشها سكان بيروت القدامى – كما الجدد – يتحدث عنها البعض بقهر وحزن والبعض الآخر بغضب مكبوت. “هنيّة” استقبلت في بيتها المتواضع في الزيدانية أكثر من عشرين شخصاً من عائلتها النازحة من الجنوب، “تضعهم في قلبها” كما تقول “لكن توفير المياه لهم كارثة تفوق طاقتها، فالمياه لا تصل إلا مرتين أسبوعياً ولوقت محدود، ما يجبرها على شراء صهاريج المياه بشكلٍ يومي، هذا عدا التسابق على الحمام صباحاً والإنتظار بالدور أمام بابه”.
“المتاولة” هنا
مناطق الزيدانية، الملا، عائشة بكار، مار الياس وطريق الجديدة التي كانت مكتظة في الأصل تشهد اكتظاظاً مضاعفاً اليوم ينعكس على كل نواحي الحياة فيها. هدى، ابنة بيروت، تقول”إذا لم نبكّر في الذهاب الى الخضرجي لن نجد شيئاً. هم يفرغون الدكاكين وسوق الخضار منذ ساعات الصباح الأولى”. من قصَدَتْ؟ من هم؟ تجيب ببراءة “المتاولة…لم يتركوا فاصوليا عريضة في السوق وراح علينا موسمها”. صحيح هي أمور بسيطة، قد تكون تافهة أمام معاناة هؤلاء الذين تركوا بيوتهم وفقدوا أحبة لهم، لكنها تزعج هدى وآلاف مثل هدى. فليس بسيطاً أن تتغيّر حياة اللبنانيين- كل اللبنانيين- بين ليلة وضحاها.
الحركة في شارع مار الياس التجاري تحسّنت في رأي كثير من أصحاب المحال. فالنازحون خرجوا بما عليهم وهم بحاجة لملابس وأغراض يومية وإلى أكل وشرب وهذا ما أعاد تنشيط حركة الأسواق الراكدة وهو ما لاحظناه بأم العين فأعداد الناس نساءً ورجالاً وأطفالاً على الأرصفة وأمام واجهات المحال لم نرها في أسواق بيروت منذ عقود ربما.
من مار الياس ننزل نحو الكورنيش البحري الذي يبدو هادئاً على خلاف ما كان عليه في الأسابيع القليلة الماضية. غابت الخيَم التي كانت تحتل رصيفه الغربي. أزالتها القوى الأمنية بالقوة. ووحدها خيمة صغيرة بقيت بخجل عند الطرف الجنوبي لمدخل فندق “موفمبيك” الفخم وكأنها تجسيد للتناقض القائم بين أطياف الناس في بيروت. نتقدم نحو الروشة، كل شيء يبدو عادياً. نسأل “غران كافيه” عن الرواد والجواب “يأتون لكن بأعداد أقل بكثير من السابق”. أمام صخرة الروشة التي ترفع العلم الأصفر لوناً. علم حزب الله؟ الأحباش؟ الراية باخت. يقف بعض المتفرجين. منظر الصخرة المهيب يجذب كل عابر مهما تكن ألوانه أو ظروفه.
“عَ الكورنيش”
تطالعنا سيدة تمارس رياضة المشي الصباحية على الكورنيش وعند سؤالنا تخبرنا أنها تعود إليه للمرة الأولى بعد إزالة الخيَم ولولا ذلك لما سمحت لنفسها بأن تعيش حياتها الطبيعية وسط أهل من وطنها فقدوا كل شيء. هو رأيٌ لا يشاركها فيه بيروتي مخضرم يمارس بدوره المشي على الكورنيش. لا يخفي ابن راس بيروت غضبه مما شهده الكورنيش البحري من “اجتياح” وفق قوله ويستعيد بكلامه ذكرى يوم مضى أسماه البعض يوماً مجيداً ويقول ” لا أخشى البوح ما أفكر به، لم يرأفوا ببيروت في السابع من أيار ولن يرأفوا بها اليوم وقد لجأوا إليها. في كل حال، ها هم يجنون اليوم ما زرعته أيديهم”. يتابع “البيروتي” سيره ويوصينا بأن ننتبه من الزعران.
وجهان تعيشهما بيروت تحت أنظارنا: تعاطف واحتضان مقابل غضب وغلّ دفين. الطريق من الروشة نحو عين المريسة يصبح أكثر زحمة نحتاج نحو ساعة لعبور بضعة كيلومترات. من المسبح العسكري حتى أوّل الكورنيش لا مظاهر للنزوح والرواد أقل من المعتاد، وحدهم الصيادون لا يزالون يحتلون “الدرابزين البحري”. جلسات نرجيلة تتوزع هنا وهناك تحت الأشجار على كراسٍ بلاستيكية بيضاء. وكأن المقاهي الشعبية المقابلة انتقلت إلى جهة البحر فيما المقاهي الراقية في الجهة الأخرى لا تزال تعج برواد من نوع آخر يتناولون القهوة الأميركية مع الكرواسان والكوكيز.
جدار الجامعة الأميركية الغربي استعاد جلسات طلابه بعد ان كانت خيم النازحين تتفيأه. تغير المنظر كلياً هنا في اليومين الأخيرين بعد أن أزالت القوى الأمنية الخيم ونقلت ناسها الى مركز إيواء جديد في الكرنتينا. “سعيد” رفض المغادرة ولا يزال يحتفظ بخيمته الصغيرة عند الفاصل الأخضر بين المسلكين ويقول “أعدت وضعها نكاية بالدولة التي نكّلت بالناس المعترين وكسّرت خيمهم ورمت بأغراضهم في البحر. هاي الدولة بدها تحمينا؟” يسأل بقهر مردداً “نسيت معنى السعادة”.
الدراجة وسيلة
نقترب من جلسة نرجيلة، على الرصيف العام، ونُستقبل بالترحاب على الرغم من كل الحذر من الصحافة الذي جوبهنا به في أماكن عديدة. ثمة حزن دفين يسكن عيون من ينفثون في الهواء غمامات بيضاء “علّها تنجلي”. كلّ الشباب من الضاحية الجنوبية وكلهم تعرضت بيوتهم للضرر والأذى، نزحوا عن محالهم وأشغالهم و باتوا بلا سقف ولا مورد رزق. يتحدث هؤلاء عن “مجتمع الكورنيش” وكيف ساعدت مريم المرأة النحيلة الجالسة وسطهم ناسه. ولمريم حكاية تستحق أن تروى… يخبرون كيف تركوا بيوتهم حين أنذروا بالإخلاء وكيف كان الكورنيش ملجأهم الوحيد في تلك الليلة السوداء وكيف استعادوا فيه بسرعة الإلفة التي عهدوها في أحياء الضاحية وشوارعها. حين أخبرهم بنيتي التوجه مشياً نحو الحمرا يتبرع أحدهم بنقلي على دراجته إلى هناك في تجربة هي الأولى من نوعها لي وفرت علي مسافة مشي طويلة.
مريم إبنة البحر
شارع الحمراء يعجّ بحركة لم يعهدها منذ وقت طويل، ويبدو في الظاهر وكأنه استعاد زحمة الناس ومقاهي الأرصفة والمتسوقين لكن ثمة روحاً مختلفة تسود الأجواء. نسأل عن مقهى جديد لم نعهده سابقاً في الشارع فتجيبنا صاحبة أحد المحلات إنه فتح أبوابه منذ ثلاثة أسابيع ومن حينها لا يخلو من الرواد. على جانبَي محلها مساحتان تجاريتان فارغتان كانتا معروضتين للإيجار- عبثاً- منذ فترة طويلة، اليوم تمّ استئجار إحداهما من قبل صاحب محل ألبسة معروف في الضاحية. نتبادل أطراف الحديث مع صاحبة المحل فتقول “نحن سيئون بحقّ بعضنا البعض، كل المحلات في الحمرا رفعت أسعارها لكن أهل الضاحية يعرفون الأسعار ويدركون جيداً أننا نستغل أوضاعهم. مش عيب؟ زبائننا المعتادون “انقرضوا ” لماذا لا نشكر ربنا على باب رزق فتح لنا”.
زحمة “البافيون”
على الرصيف، أمام أحد المحلات التابعة لسلسة عالمية اقفلت أبوابها منذ مدة، كراسٍ وأراكيل ودراجات نارية و… جلسة. تفاجئك هذه الجلسة التي لم تكن الحمرا تعرفها سابقاً لكنك تتفهمها: لا اشغال،لا مشاغل، فراغ وهمّ قاتل… نتوجه نحو شارع “البافيون” المعروف بمتاجره المتعددة. هو سنتر تجاري غير مكتمل البناء تمّ ترميمه حديثا قدمه صاحبه وهو من الجنوب- كما قيل لنا- إلى النازحين فامتلأ الشارع الضيّق حتى فاض بالسيارات والدراجات النارية التي احتلّت الأرصفة كما بشاحنات الخضار ليصير عبوره مشكلة حقيقية.
سمر، شابة تراقب المشهد وتقول: “الأمر لا يحتاج الى أكثر من تدخل للبلدية لضبط الأمور وتنظيم السير ولمّ النفايات من الشوارع ومنع الشواذ. بيروت تختنق والضغط يولد الإنفجار. على الدولة ان تتدخل قبل فوات الأوان” هذا الإحساس بالضغط دفع بالمهندس عمر بلوز الى كتابة منشور انتشر بسرعة عبر غروبات الواتس أب يحذّر فيه البيارتة من فتح المجال لفتنة داخلية ويحذرهم من الإنجرار الى المشاكل مركزاً على الآلام والصعوبات والظروف النفسية الصعبة التي يمرّ بها النازحون وعلى كرم هؤلاء ونخوتهم، ويدعو البيارتة الأوادم الى مدّ يد الخير للمحتاج والتغاضي عن استفزازات قد تصدر من قلة.
نخرج من الحمراء بجهدٍ جهيد، نتوجه نحو ساحة الشهداء وجامع محمد الأمين الذي كان يستضيف في باحته الخارجية عشرات النازحين. الخيَم هنا أزيلت أيضاً لكن منظراً غريباً غير مفهوم يطالعنا في موقف السيارات المقابل للمسجد ولقبضة الثورة. نساء وأولاد يفترشون الأرض بلا خيَم، يكدسون الفرش والأغطية وبعض الأغراض والملابس فوق بعضها وسط الساحة. الرائحة المنبعثة من أرجاء المكان تكاد لا تطاق، بسرعة تتحلق حولنا مجموعة من الأولاد من كل الأعمار، يعرّفون عن أسمائهم ويرددون: بدنا ملابس. ظنوا أننا من الجمعيات الكثيرة التي تزور المكان وتختفي بعدها. على الأرض تجلس نسوة مع أطفالهن يتناولون البيض مع عروق من النعناع “هذا طعامنا” تقول إحداهن وتضيف “لا أحد يجلب لنا الأكل “.
من لهجتهم وأسلوب لباسهم ندرك أنهم من العرب او “النور” الذين نراهم يتسولون في الشوارع عادة. حين نسأل من أين أتوا يجيبون على الفور أنهم من الضاحية ويصرون على ذلك في محاولة لتوسل مساعدات.
تحت الأشجار البعيدة يقضون حاجتهم، وفي خيمة صغيرة تُبدل النساء والفتيات ملابسهن أما الاغتسال فمعضلة لا حلّ لها. لا رجال في المكان، بعض المراهقين يحاولون التحدث بلسان المجموعة سرعان ما تبعدهم إحدى النساء لتستلم دفة الحديث وتطالب بمساعدات.
حكاية مختارة الكورنيش: مريم
هي امراة نحيلة حفرت الشمس خطوطاً على وجهها المتعضم الأسمر، تسكن الكورنيش منذ 21 عاماً وتتنقل من تخشيبة الى أخرى على جوانبه. إنها مريم- ” مختارة الكورنيش”- كما يسميها الكلّ. حين بدأ النازحون بالوصول استنفرت مريم طاقاتها واتصالاتها وبسرعة بدأت تنظيم الأمور. براد بلاستيكي لبيع قناني المياه وغاز صغير لصنع القهوة وبدأت تستقبل إعانات وإعاشات من راهبات اللعازارية ومن جمعيات تعرفها، بدأت توزيعها على النازحين. تبيع المياه بأرخص من المحلات ومن ليس قادراً على الدفع تقدمها له مجاناً.
تقول مريم “حين جئت الى هنا عانيت من التحرش والتنمر كوني امرأة وسيقت عني أخبار تمسّ بسمعتي وشرفي لذا كنت مصرّة على ألا تتعرض أية امراة أو فتاة من النازحين لما تعرضت له. أردت مساعدة النساء بشكلٍ خاص وكنت أؤمن لهن أمكنة للدخول إلى الحمام في المطاعم التي أعرفها وآخذ البعض إلى بيتي للإستحمام. النازحون أهلي ، ونحن “المعترين” نحنّ على بعضنا. أمنت فرشاً وحرامات على قدر استطاعتي وصار كل من هو بحاجة لأي شيء يتواصل معي لأؤمن له ما يحتاجه.”
حول عنقها تلف مريم مسبحة تحمل الصليب، وفي أذنيها تضع أقراطاً عتيقة صدئة على شكل صليب، نسألها إن كانت مسيحية؟ ترفض الإجابة مكتفية بالقول أنا إنسان! يعزّ على مريم أن البعض وصفها بالنصابة وبأنها تستولي على المساعدات وتبيعها وتقول “أعيش لوحدي، تقول فما حاجتي للمعلبات والحبوب؟ أشعر مع الناس لأن أحداً لم يشعر بي حين تشردت من بيتي منذ عشرين عاماً”. الملتفّون حول مريم في الجلسة يستفيضون في الحديث عن مزاياها وكبر نفسها وما قامت به. هي امرأة أنجزت ما عجزت عنه جمعيات إنسانية عدة.