وبعد:
يوما بعد يوم، تتحوّل بيروت… تلك المدينة التي لطالما أطلقوا عليها جملة من الألقاب البراقة: «ست الدنيا، سيدة العواصم…» مستغلة انتفاضتها-الثورة، النابعة من أصالة شعبية ووطنية وثقافية، والمندفعة بوجع الناس ومعاناتهم وانقلاب أوضاعهم إلى هذا الدرك العميق من الأوضاع والاحتياجات والآلام، والمتحولة بسرعة البرق والرعد الذي ملأ أجواءها في هذه الأيام الملتهبة، إلى أمواج من الغضب، تجلّى في حراكها المتأجج في الأيام الأخيرة، علّهُ يثمر ولادةً لحكومة جديدة قريبة في مواصفاتها من مواصفات الثورة التي انطلقت من رحمها ناهزت ثلاثة أشهر من العمر المتأجج الحافل بالتجمعات الشعبية والمسيرات الوطنية والإحتجاجات المنظمة، علّها تسفر عن صحوة سلطوية تتنبه إلى هذه الحال المأساوية التي وصلت إليها البلاد.
وبعد:
ليس هدفنا الغوص بكل تفاصيل مستجدات الأحداث وتطوراتها وصولا بها إلى تأليف حكومة جديدة طال انتظارها على وقعٍ غير مسبوق في متاهات الخراب والدمار بل نكتفي بالتنويه إلى إشارات وتحولات، وصفها غبطة البطريرك الماروني بحصيلة الخزي والعار، خاصة ما تعلّق منها بما حصل الأربعاء والسبت والأحد في الساحات العامة والشوارع الكبرى، والآتي قد يكون أعظم.
من فجائيات الأيام الأخيرة، أن زمرا من المتسللين، تصدروا الإنطلاقات الوطنية الصافية والصادقة وعمدوا إلى اقتحام مواقع مواجهة مصطنعة، فكسّروا واجهات المصارف وكثيرا من واجهات المؤسسات والمتاجر، وحطموا أعمدة ومنشآت أثرية كانت تزهو بها معالم العاصمة واستعملوا حجارتها الناتجة عن التحطيم في مواجهة قوى الأمن، وناهزت أعداد المصابين نتيجة لها أربعمئة مصاب، طاولتهم ضربات العصي ورشقات «الحجارة الأثرية» والقنابل المسيلة للدموع والطلقات المطاطية، ولئن كانت المواجهة الأمنية قد أخلّت في بعض وجوهها بقواعد أساسية في عملية مواجهة المتظاهرين، خاصة في ما يتعلق باستعمالها غير السليم والمتجاوز للقانون، للطلقات المطاطية، متسببة بإصابة بعض المتظاهرين في رؤوسهم وعيونهم وأماكن حساسة في أجسادهم، فإن ذلك لا يعني إطلاق العنان الجامح لتلك الأعمال المتفلتة التي طاولت جملة من المصارف والمتاجر والأماكن العامة محدثة فيها الخراب والدمار والتشويه، بل إن بعضها قد وصل إلى حد سرقة موجودات بعض تلك الأماكن، الأمر الذي وصفه غبطة البطريرك بأنه خزي وعار.
وبعد،
هذه بيروت التي اندفع بعض المخربين، المجهولين منهم والمعروفين إلى اقتحامها وإلى الإندساس في صفوف ثوارها وإلى القيام بمحاولات حثيثة وممنهجة ومدروسة لجرّ صفوفها النظيفة إلى أوساخ تحمل بصمات المندسين والمنحرفين، حتى لوصل الأمر إلى حرق الخيام بموجوداتها واستعمالها السلمي المنتهج لجملة من النشاطات الوطنية والثقافية والتوجيهية.
هذه بيروت، التي تأبى إلاّ أن تكون لؤلؤة العواصم بتاريخها المجيد الذي ضم بين أماكنه التاريخية ساحات كتلك التي تشغلها حاليا جحافل الثوار، بيروت المدينة الأم التي يبهجها أن تصب في نطاقاتها جميعا كل معالم الوطنية والإندفاع الثوري والرغبة الجامحة في التغيير، بيروت الأماكن المعبرة عن كل حضارات أصيلة ضمت إليها جملة من القادة السياسيين التاريخيين وجملة من المثقفين الذين ارتكزت إليهم أعمدة التوقف اللبناني الصادح والمرتبط ارتباطا أصيلا بحضارات العالم الحديث، بيروت التي يفخر أهل العلم والإعلام والنشاط الوطني والقومي الأصيل بأن تكون مركزا من مراكزهم المتمثلة بجمعياتها ونواديها ووسائل إعلامها المختلفة بل وببعض مقاهيها الراقية التي لطالما كانت مركزا لمن ذكرنا من أعلامها وأخص بالذكر مقهى الهورس شو في الحمرا والديبلومات والدولتشي فيتا في الروشة ولكم يسوؤني أن أمرَّ بها في هذه الايام الحالكة، فإذا بي أراها وقد زالت من الوجود، أو تحولت معالمها وتغير روادها وأضحت مجرد أماكن للسمر وتمضية الوقت.
وبعد:
بيروت هذه تحمل لدى اللبنانيين عموما وأهل بيروت خصوصا جملة من المعالم والدلالات والرموز والذكريات الحلوة والأصيلة وهم لذلك حريصون على ألا تخمش بأي أذى، خاصة إذا كان ذلك الاذى مقصودا ومخططا له ولا يبغي أي خير لعاصمة رفعت شعارات الأصالة والعطاء والإبداع والثقافة على مدى تاريخها، ويؤذينا اليوم أن نراها تعاني من هذا السقوط المريع في مهاوي الأذى والتكسير والتدمير وأن نرى كل أولئك الذين يحاولون إبعادها المشبوه، عن موقعها العتيق وأصالتها المشعة، دون أن تردعهم أخلاقيات النضال الحقيقية، فالمطلوب، انتفاض على السلطة الظالمة وتجنب إيقاع الأذى المفرط والمتهور، بحقوق المواطنين ووسائل ارتزاقهم.
أما وقد تألفت حكومة، شاء مؤلفوها أن تكون حكومة اللون الواحد، فهي اليوم في مواجهة حشد شعبي لم يسبق له مثيل في هذا البلد المنتفض، هي مرحلة نضالية جديدة وقد فُتحت أحداثها على الغارب، وقى الله لبنان وحفظ له بيروته، لؤلؤة العواصم.